30‏/01‏/2015

أثر النزعة الدينية في التركيبة السياسية


أثر النزعة الدينية في التركيبة السياسية

بعد الحروب الصليبية وابان انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ادركت اوروبا ان للنزعة الدينية في التركيبة السياسية نتائج عكسية. وأيقنت الدول الغربية انه لا بدّ من الانقلاب السياسي على سلطة الكنيسة وتحويل السلطة في البلاد الى سلطات مدنية لا يصل نفوذ الكنيسة اليها.
كما استفاد الاوربيون من تجربة الحروب الصليبية وهزائمهم أمام الجيوش العربية والاسلامية في تلك الحقبة، وادركوا انهم لا يمكن ان يتفوقّوا على البلاد العربية والاسلامية الا بنقل الضعف الذي كانوا يتخبّطوا فيه الى تلك البلاد. فعمدوا بكل مكر ودهاء الى
زرع بذور الفتن الطائفية والعرقية بين الشعوب في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين ومصر وتركيا وايران وغيرها من البلاد.

ولكي يُرضوا الكنيسة سمحت حكومات الدول الاوروبية بارسال بعثات تبشيرية الى بلدان الشرق الاوسط كانت لها وظائف متعددة. فبالاضافة الى وظيفتها الدينية التبشيرية الاساسية كان لها وظائف سياسية وتجسسية وعملت على تأليب الطوائف المسيحية على الطوائف الاسلامية.
كما اسست مخابرات تلك الدول الى توسيع الهوّة بين الطائفة السنية والطائفة الشيعية في كل من العراق وسوريا ولبنان على وجه الخصوص.

ومنذ انتهاء الحرب العالمية الاولى لم تهمل دول الغرب يوما تقوية الحالات الدينية في المجتمعات العربية والاسلامية، والتي كانت لا تعترف الا بالتعليم الديني وتعتبر كل تعاليم اخرى اشكال مختلفة من الكفر. تماما كما كانت الكنيسة حتى القرن التاسع عشر في اوروبا تعتبر ان كل عالم ومخترع هو ابن للشيطان.

ولما حاول هتلر المانيا ان يخلق دولة عنصرية عرقية ضد العرق السامي، كان لاوروبا الفرصة الكبرى بعد هزيمة هتلر لخلق دولة اسرائيل اليهودية في المنطقة والغاء فلسطين وخلق حالة نزاع جديدة في المنطقة بين الطوائف ومنها الطائفة اليهودية.

والآن وسط هذه الفوضى الشرسة التي تتخبّط بها بلادنا، وهذه الفورة الغير مسبوقة للمنظمات الاسلامية المتطرفة، وطريقة تعامل الغرب معهم خصوصا الولايات المتحدة الاميركية، لا بد ان يتبادر الى الاذهان اسئلة بداهية بسيطة يجوز ان تكون الاجوبة عليها ايضا سهلة وبسيطة، الا انها بنفس الوقت معقّدة الشرح والاسلوب، كما هي شديدة التعقيد في الاهداف.

من هذه الاسئلة مثلاً: كيف وُجدت حركة الاخوان المسلمين وكيف استطاعت الصمود لقرن كامل تقريبا، رغم كل الصعوبات التي مرت بها والعقوبات التي كانت تضغط عليها؟ ومن موّلها ويموّلها، ويحرص على ان لا تنتفي خصوصا في مصر وسوريا؟ وكيف وصلت الى حكم مصر والتمعن بسبب انكسارها وعزلها؟

وكيف استطاع الامام الخميني ان يصدّر ثورته من فرنسا الى ايران، ويخلع شاه ايران حليف الغرب الاقوى، ويهيمن على الحكم في ايران حتى يومنا هذا رغم حروبه مع العراق ورغم العقوبات الاقتصادية القاسية ورغم العزلة المميتة التي تتخبط فيها ايران اليوم؟

وكيف استطاعت حركة حماس ان تبصر النور، وتقوى الى درجة السيطرة على قطاع غزة وطرد، رغم حصار اسرائيل القاتل للقطاع، ورغم الغارات الشنيعة التي تشنها اسرائيل في كل فترة فتقتل العشرات من الابرياء وتدمر ما تم بناؤه؟ وكيف يستطيع السلاح ان يصل الى سلطة حماس برغم كل هذا الحصار الهائل؟

وكيف ظهر فجأة تنظيم اسمه القاعدة سيطر على افغانستان بعد ان انسحب الروس منها، وعمل لاحقا على تفجير ابراج نيويورك ووزارة دفاع واشنطن؟ وكيف هو الى الآن وبعد احتلال افغانستان من قبل الغرب، لا يزال ناشطا في مختلف البلاد من افغانستان الى العراق الى اليمن؟ فمن يموّل هذا التنظيم ومن يساعده على ارساء دعائمه في المنطقة؟

وكيف انتهت الحرب الاهلية في لبنان وتمت المصالحة بين الاحزاب والطوائف، وبقي السلاح معهم جميعا وليس فقط مع حزب الله؟ ومن يموّل كل هذا السلاح؟ ومن يحول دون تقوية الدولة اللبنانية؟

وكيف برزت الاحزاب السلفية والاحزاب الدينية الاصولية الاخرى وولدت ومعها اسلحة واموالا لا يمكن حصرها؟
فمن أين جائت كل هذه الاموال وكل هذه الاسلحة؟ وآخرها تنظيم داعش الذي برز فجأة ومعه من الاسلحة المتطورة ما ليس موجودا عند الجيوش العربية وجيوش الدول الاسلامية ومعظم جيوش العالم!؟

من السهل جدا ان نوجّه اصابع الاتهام الى اجهزة مخابرات العالم كلها، ونقول ان التمويل يتم من اميركا واسرائيل واوروبا والسعودية وايران وقطر وتركيا وروسيا والصين وكل من والاهم وعمل ضمن سياساتهم.

ولكن هل كل هؤلاء يسعون الى خلق دول أو انظمة سياسية دينية في المنطقة؟ واذا كان الجواب نعم، فكيف؟

هنا تبدأ الاجابات بالتعقيد. فمثلاً روسيا والصين وايران وسوريا وحتى اسرائيل ليست في وارد السماح لانظمة سنية اصولية ان تهيمن مهما كلّف الامر؟

والصراع الدامي الدائر حالياً في سوريا والذي لا يبدو له اية نهاية، لهو اكبر دليل على ان الامر لا يمكن ان يمر بهذه السهولة.

ولكي لا نغوص في التحاليل ومتاهات السياسة وما في صدور عصبة الغرب، ربما وجب ان نعيد النظر وندرس التاريخ الغير بعيد جيدا ونمعن فيه امعانا دقيقا.
واذا فعلنا ذلك نستخلص ثلاثة امور في غاية الاهمية لا بدّ ان نستفيد منها ونعتبر:
اولا - الهجمة الاوروبية الصليبية على بلادنا كانت هجمة غايتها دينية لذلك انهزمت.
ثانيا - سيطرة الفتن الدينية على بلادنا ادت الى تخبّط البلاد في سلسلة من الهزائم لم تنته بعد.
ثالثا - ان وجود اسرائيل في المنطقة ودفاع الغرب المستميت عنها، هو السبب المباشر الذي من اجله يتم تفتيت امتنا لانهاكها واضعافها وشل قدراتها ومنعها من التفوق عسكريا واقتصاديا وعلميا وتربويا.

وهكذا نجح الغرب والشرق في ادارة "حرب دينية" من نوع آخر علينا. وهذه الحرب تدور دوائرها الآن على اراضينا وفي بلادنا ومناطقنا وبين ابنائنا واخواننا ضد بعضهم البعض. شيعة وسنة واقباط ومسيحيين ودروز.
نسمع اليوم عن التقدم العلمي في اميركا واليابان والصين وروسيا وغيرها من الدول المتقدمة، وعن عزو الفضاء واستطشاف المجرات!
فيؤلمنا أن نسمع ان شعوب مصر والعراق ولبنان يعانون من انقطاعات متواصلة في التيار الكهربائي.
ويؤلمنا ان نسمع ان الكهرباء يلزمها اجهزة ومعدات وتقنية وصيانة غربية كي لا تنقطع.
ويؤلمنا أكثر ان نختلف على شرعية النقاب والحجاب وحقوق المرأة. وتلهينا أحكام الشريعة في تفاصيل بسيطة لحياتنا الشخصية.
ويؤلمنا أكثر وأكثر ان يصل بنا الجهل الى درجة قتل بعضنا البعض واحيانا بدمٍ بارد، بسبب الدين او المذهب او انتصارا لحزب او شخصية من الشخصيات!.
ويفطر قلبنا ان نشاهد على صفحات الانترنت الاجتماعية جماعات تستجدي الصلاة على الرسول او حب السيد المسيح، وكأنّ. الرسول صلى الله عليه وسلم والسيد المسيح عليه السلام، ينقصهما معجبين او تعليقات كي تزيد شعبيتهما!.

عندما نصل الى ما فهمه الغرب منذ قرن مضى ان الدين لله وحده. وأن الدين والسياسة لا يجب ان يجتمعان كي لا يفسد احدهما الآخر. عندها فقط نكون قد حافظنا على ديننا وارتقينا في كياننا السياسي وكياننا الاجتماعي وكياننا الفكري.

وعندما تصفى قلوبنا ونتقبّل الدين حالة جامعة وليست وسيلة للفرقة، نكون قد وصلنا الى درجة الوعي العقلاني والنقاء الربّاني.

وعندما نقتنع ان مجتمعاتنا هي مجتمعات تعددية كانت منذ الازل ولم تزل الى يومنا هذا، وهكذا ستكون غدا قائمة على العيش المشترك،، عندها فقط نقفز من حالة انعدام الكهرباء الى حالة توليد الكهرباء بتقنيتنا ووسائلنا واجهزتنا وخبرائنا.

سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات:

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات