كان اسم لبنان منذ الازل مدوّنا في التواريخ القديمة، وسكّانه من سلالة سام بن نوح الذين نزلوا من السفينة واستوطنوا سواحله، ونشطوا في التجارة، وأدخلوا صناعة الاصبغة واخترعوا قبل الحرف، اللون الاحمر الارجواني، فسمّاهم الاغريق بالفينيقس أي الارجوانيين.
كانت مهارة اللبنانيين بالتجارة والعلم، تجذب حضارات أخرى توالت على احتلال تلك المناطق الخلاّقة، لتستفيد من خيرات ارضها وإبداعات شعبها.
توالى على لبنان مستعمرون كثر منهم المصريون الفراعنة والآشوريون والبابليون والفرس والاغريق والرومان، وكانت بيروت أم الشرائع.
ولمّا فتح المسلمون بلاد الشام، كان لبنان تحت الحكم الاموي ثم الحكم العباسي ثم الفاطمي والسلجوقي.
بعدها قدم الصليبيون ليطردوا السلاجقة ويحكموا لبنان ثم جاء المماليك ليطردوا الصليبين، الى ان جاء العثمانيون ليحتلوا بلاد الشام ويعهدوا ادارتها الى المعنيين الدروز الذين استمروا في الحكم حوالي 500 عاما، عندما انتهى عهدهم وبدأ العهد الشهابي.
في العهد الشهابي، حمل نابليون بونابرت على بلاد الشام وحاربه العثمانيون، الذين اضطروا للتخلّي عن السواحل اللينانية لصالح الحملة المصرية التي استطاع بواسطتها المصريون السيطرة على لبنان لمدة 9 أعوام تقريبا.
غير ان العثمانيين عادوا الى احتلال لبنان بمساعدة الانكليز والروس، وأنشأوا فيه ادارة المتصرفية وعيّنوا عليه حاكما عثمانيا، وأتبعوا ولايةجبل لبنان بولاية دمشق، وصار لبنان يعرف باسم لبنان الصغير.
بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية وهزيمة العثمانيين، وضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي وفق اتفاقية سايس بيكو، الى ان أخذ اللبنانيون استقلالهم عام 1943.
وبعد اغتصاب اسرائيل لفلسطين عام 1948، لجأ حوالي 100 ألف فلسطيني الى لبنان ليعيشوا في مخيمات أشيدت خصيصا لهم.
وبسبب النزاع الدولي والاقليمي الذي سببه حلف بغداد، نما الصراع الطائفي بين اللبنانيين، وتحول هذا الصراع الى معارك طائفية بين المسلمين والمسيحيين عام 1958.
وفي عام 1975 بدأت الحرب الاهلية بين المسيحيين من جهة والمسلمين والفلسطينيين والقوة اليسارية من جهة أخرى. وتقسّم لبنان الى مناطق طائفية، وانشطرت بيروت الى قسمين مسلم ومسيحي. وتمكّنت سوريا من السيطرة عسكريا على لبنان باستثناء المناطق المسيحية.
ولمّا اجتاحت اسرائيل لبنان عام 1982 وتمكّنت من اخراج الجيش السوري والفصائل الفلسطينية المسلحة من بيروت، انسحب الجيش الاسرائيلي من بيروت والمناطق الجبلية، ليبقى في الجنوب اللبناني. وعلى الاثر نشبت معارك ضارية بين حلفاء الامس، القوى الاسلامية والمخيمات الفلسطينية.
انتهت الحرب الاهلية اللبنانية باتفاق الطائف الذي كرّس التوزيع الطائفي للحكم.
عام 2000 انسحبت اسرائيل من الجنوب اللبناني باستثناء مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، وسطع نجم المقاومة الاسلامية في لبنان بقيادة حزب الله.
عام 2005 بدأت سلسلة اغتيالات لقادة لبنانيين أبرزهم رئيس وزراء لبنان الاسبق رفيق الحريري، الذي كان يعرف بعرّاب اتفاق الطائف.
انقسم القادة اللبنانيون الى قسمين، قسم اتهم سوريا باغتيال الحريري وانتفض ليجبرها على الانسحاب عسكريا من لبنان. وقسم اعتبر سوريا بريئة من دم الحريري، واتهم اسرائيل باقتراف الاغتيالات.
عام 2006 شنت اسرائيل حربا ضد حزب الله بهدف تدمير بنيته العسكرية، واخضاعه للنظام الدولي، ولكن حزب الله تمكّن من كسب الحرب والدخول في معترك السياسة اللبنانية من بابه العريض، وصار قوّة سياسية فعّالة ومؤثّرة في لبنان.
واليوم ينتظر اللبنانيون قرارا ظنيا من محكمة دولية خاصة أنشأتها الامم المتحدة للتحقيق في قضية اغتيال الحريري، وكشف القتلة ومحاكمتهم.
ويقول حزب الله ان تسريبات من غرف تلك المحكمة الدولية، كشفت ان المتهمين في اغتيال الحريري سيكونون ثلاثة أشخاص ينتمون الى حزب الله. وبالطبع ينفي حزب الله هذا الاتهام بشدّه قبل أن يصدر، ويطلب من سعد الحريري رئيس وزراء لبنان وابن الشهيد الحريري، ان يلغي المحكمة الدولية ويرفض قرارها الظني قبل أن يصدر.
وتشتدّ حاليا السجالات بين الفريقين السياسيين في لبنان، وتكثر التكهنّات بحرب أهلية جديدة، وفتنة شيعية سنية ومسيحية مسيحية ومسيحية اسلامية.
لماذا أشهد أن لا دولة مثل لبنان؟
لأن لبنان هو الذي بدأ الحرف واللون.
ولأن لبنان منذ الازل، كانت كل سلطة غاصبة تحتلّه تخرج منه خالية الوفاض، ويستقل عنها غانما مكتسبا الكثير من العلوم والفنون، وينعم بالازدهار الاقتصادي حتى صار مركزا استراتيجيا مهما وموقعا جغرافيا استثنائيا ما زال يستقطب الاهتمامات والاطماع الدولية.
ولأن لبنان هو الدولة الوحيدة التي حاربت فعلا الجيش الاسرائيلي عام 1948.
ولأن لبنان هو أول دولة فتحت أبوابها للفلسطينيين.
ولأن لبنان هو أول مقاومة عسكرية حقيقية واجهت اسرائيل وأذلت جيشها وطردته.
ولأن لبنان هو الدولة الوحيدة التي حضنت على أرضها طوائف العالم كلها.
ولأن لبنان هو طائر الفينيق الذي لا يموت وينهض دائما من الرماد.
ولأن لبنان أيضا هو وطن السياسيين المتسايسين....
الذين يختلفون مع بعضهم ليتحالفوا مع غيرهم.
الذين يشدّون الخناق على أعناقهم، ويسخون على غيرهم.
الذين ينقسمون على بعضهم، ويتّحدون مع غيرهم.
الذين ينشرون غسيلهم الوسخ على السطوح، ويبالغون بمديح غيرهم.
ولأن لبنان أيضا هو وطن اللبنانيين...
اللبنانيون الذين لا يكلّون ولا يملّون من السقوط والنهوض.
أشهد أن لا دولة مثل لبنان، ينفتح العالم عليها، وتغلق هي على نفسها.
أشهد أن لا دولة مثل لبنان، تخلق في كل فترة دائرة وهمية تتقوقع بداخلها ولا تخرج منها الى ان ينقضي أجلها، فيخرج ليدخل دائرة وهمية ثانية وهكذا دواليك.
الدائرة الوهمية لهذه الفترة هي المحكمة الدولية، التي عزّزها اللبنانيون بشهداء الزور.
وبين المحكمة الدولية وشهداء الزور، يبقى اللبنانيون لا يكلّون ولا يتعبون من السقوط والنهوض ولو بالزّور.
أشهد أن لا دولة مثل لبنان.
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق