29‏/01‏/2012

تركيا وعودة العثملّي


أسسس العثمانيون أقوى دولة اسلامية في العصر الحديث، استطاعت دحر الصليبيين، والسيطرة على بلاد كنعان وشبه الجزيرة العربية وشمالي افريقيا. واستولوا على بلاد اوروبا الوسطى امتدادا الى البلقان.
كما اجتاحت جيوش الدولة العلية جنوب ايطاليا واخذوا قبرص وحاصروا فيينا عاصمة النمسا. وسيطرت اساطيلها على طرق التجارة البحرية في البحر الاسود والبحر الابيض والبحر الاحمر امتدادا الى الخليج العربي الفارسي وبحر الهند.
الا ان ضعف الدولة العثمانية في أواخر عهدها جعل الدول الأوروبية تتآمر لاستباحتها امنيا وسياسيا، فأثاروا ضدها الحركات السياسية والدينية والعرقية اضافة الى التمردات الداخلية التي أنهكتها.
ووصل ضعفها الى أوجّه حين أعلن محمد علي باشا والي مصر انفصال مصر واستقلالها عن الدولة العلية. ثم جاءت الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية لتكرّس انفصالا دينيا وتلغي خلافة السلاطين العثمانيين.

اليوم نرى ان التاريخ يعيد الاحداث بشكل عكسي، ليرجع للدولة العليّة اعتبارها في المنطقة التي طغت عليها الفتن والمؤامرات، وقلبت معايير سياسية وعسكرية وحتى استراتيجية. واستعرت فيها الخلافات المذهبية والطائفية والعرقية. كيف؟
قبل الاجابة لنستعرض بعض الاحداث التي حصلت في المنطقة خلال القرن الماضي.

في أواخر عهد السلطان عبد المجيد الأول، نشبت عام 1860 فتنة طائفية كبرى في الشام، وتحديدًا في دمشق وسهل البقاع وجبل لبنان بين المسلمين والمسيحيين عموما، والدروز والموارنة خصوصًا، فوقعت مذابح مؤلمة. وكان سفراء بريطانيا وفرنسا يشجعون الفريقين على الانتقام ويساعدونهم على الثأر. خشي السلطان أن تؤدي هذه الفتنة إلى تدخل الدول الأجنبية العسكري، فأمر بإخمادها.
ولكن الدول الأوروبية قد ضغطت على السلطان وحملته على القبول بتشكيل لجنة دولية يوكل إليها أمر إعادة الهدوء إلى جبل لبنان ودمشق، وتصفية ذيول الفتنة.
قدّمت الدول الأوروبية الكبرى لائحة للدولة العثمانية تقضي بتحسين الأحوال المعيشية لرعاياها المسيحيين، وفرضوا مراقبة اوروبية لتنفيذ إجراءات التحسين. فرفضت الدولة اللائحة لأن هذا يعتبر تدخلاً صريحًا في شؤونها.
يذكرني هذا بما يجري حاليا مع سوريا....

استغلت روسيا هذا الرفض واعتبرته سببًا كافيًا للحرب، وفي هذه المرة أطلقت أوروبا العنان لروسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيين. فاحتلت الأفلاق والبغدان وبلغاريا ووصلت أدرنة وأصبحت على بعد 50 كيلومترًا فقط من الآستانة.
كذلك دخلت جيوشها الأناضول، وعادت الصرب والجبل الأسود لتعلن الحرب على الدولة العثمانية، فاضطرت الأخيرة إلى طلب الصلح، وأبرمت معاهدة سان ستيفانو مع روسيا عام 1877، التي اعترفت فيها باستقلال الصرب والجبل الأسود والأفلاق والبغدان وبلغاريا، ثمّ تمّ تعديل هذه المعاهدة في مؤتمر عُقد في برلين تمّ بموجبه سلخ المزيد من الأراضي عن الدولة العثمانية.

اليوم نرى المشهد نفسه ولكن بشكل مختلف وادوار متبادلة... لا ثابت الا التدخل الاجنبي في شؤون المنطقة.
محور الصراع اليوم سوريا بدل تركيا.
وتركيا اليوم رأس حربة تحول بشكل او بآخر دون تقدّم الدول الغربية عسكريا لفرض حالة معينة في المنطقة.

بيد ان الخلافات المذهبية والطائفية تكاد ان تنتفض نارها من تحت الرماد، ولن يستطيع احد اخمادها، حتى تركيا نفسها... الامر الذي سيسفر بالنتيجة عن تدخل عسكري اجنبي قوي في المنطقة بحجة حماية طوائف او مذاهب او اعراق معينة.
وكما كانت روسيا من قبل هي البادئة في الحرب ضد الدولة العثمانية، بحجة حماية المسيحيين، فيجوز ان تبدأ الحرب اليوم بحجة حماية العلويين، اذا لم تبدأها اوروبا الغربية بحجة حماية المسيحيين.
وقبل الخوض في تفاصيل اكثر، يستحسن التذكير بأمرين او حدثين بارزين حدثا في تلك الفترة، وتركا آثارا عظيمة ما زالت تتفاعل الى يومنا هذا.
الأزمة الأرمنية وقيام الحركة الصهيونية.

فقد عملت البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية على إذكاء الشعور القومي الأرمني، وفي الوقت نفسه اعتقدت الدوائر الحاكمة في الآستانة أن بعض الأرمن يعملون كعملاء لروسيا وبريطانيا، وساورها الشكوك حول ولائهم، ومن ثم نظرت إليهم على أنهم خطر يهدد كيان الدولة ومستقبلها وأمنها. ولم تلبث أن عمّت الاضطرابات أنحاء أرمينيا، وأخذ الثوّار يهاجمون الموظفين الحكوميين العثمانيين، وقاموا ببضعة مجازر في بعض القرى الإسلامية الكردية، فقام العثمانيون بالرد على ثورة الأرمن بأن أرسلوا جيشًا مؤلفًا بمعظمه من الأكراد إلى مناطق الثورة حيث دمّروا العديد من القرى الأرمنية وقتلوا كثيرًا من الثوّار ومن ساندهم، فيما أصبح يُعرف باسم "المجازر الحميدية".
هذه المجازر تبقى الى الآن تهديدا حقيقيا لتركيا ومانعا لها من الدخول في الاتحاد الاوروبي. كما انها تبقى ضغطا هائلا عليها لتنفيذ ما تريده اوروبا منها سياسيا وعسكريا. وليس اقله ما حدث مؤخرا في فرنسا بشأن قانونها بتجريم انكار المذابح الارمنية، وما تسببته من ازمة دبلوماسية حادة بين تركيا وفرنسا.
ويتسائل المرء، لماذا تريد فرنسا اصدار هذا القانون اليوم، في الوقت الذي تحتاجه الى كل الدعم التركي للسياسة الاوروبية والاميركية في المنطقة؟

أما الحدث الثاني والاخطر فهو قيام الحركة الصهيونية، التي نشأت بقيادة ثيودور هرتزل عام 1897، ودعت إلى إقامة وطن قومي ليهود العالم في فلسطين الخاضعة للدولة العثمانية وتشجيع اليهود على الهجرة إليها.
أصدر السلطان عبد الحميد يومها فرمانًا يمنع هجرة اليهود إلى الأراضي المقدسة، لكنه اضطر في نهاية المطاف إلى التهاون معها تحت ضغط الدول الأوروبية، وخاصةً بريطانيا.

وفي 1923 م تمت معاهدة لوزان التي قضت باستقلال تركيا وتوزيع إرث الامبراطورية العثمانية الذي كانت قد تم الاتفاق عليه سرياً منذ عام 1915 عبر اتفاقية سايكس بيكو والتي أفضت إلى حقبة الاستعمار الأوروبي الحديث في الشرق الأوسط.

وتمخّضت الاتفاقية عن تأسيس عصبة الأمم بدعم أميركي، التي يرجع الهدف إلى تأسيسها الحيلولة دون وقوع صراع مسلّح بين الدول كالذي حدث في الحرب العالمية الأولى ونزع الفتيل من الصراعات الدولية.
وافقت عصبة الامم على المطالب الاستعمارية لكل من بريطانيا وفرنسا وأقرت بشرعية انتدابها على دول المشرق.
ولكن هل نزع فعلا هذا الفتيل؟
ما يحدث من عروض قوى في الخليج والبحر الابيض المتوسط لا يدل على ذلك.

بدأ التطبيق الفعلي لمضمون اتفاقية سايكس بيكو سنة 1918 والمعارك لم تنته بعد وذلك حين قسم الجنرال اللنبي قائد الجيوش الحليفة في الشرق المناطق العربية إلى ثلاث: واحدة بإدارة فرنسية (الساحل) وواحدة بإدارة عربية (الداخل) والأخيرة بإدارة بريطانية.
لكن التغطية الدولية لهذه الاتفاقية جاءت عبر مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919 فقد طرح المؤتمر مفهوما جديدا للاستعمار هو الانتداب الذي اقترحه الرئيس الأمريكي ويلسون ورئيس وزراء جنوب أفريقيا الجنرال سمطس وهو ينص على تولي دولة كبرى شئون الدولة التي لا عهد لها بالحكم والتي خضعت لفترة طويلة لإحدى الإمبراطوريات المتداعية كالدولة العثمانية فتساعدها الدولة المنتدبة حتى تصبح قادرة على إدارة شئونها بنفسها.
فهل نضجت تركيا الآن لتعاود تولي شؤون المنطقة بعد ان برهنت على مهارة فائقة في ادارة شؤونها الدخالية؟

عندما رفض المؤتمر السوري العام اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور وأعلن قيام المملكة السورية ونصب الأمير فيصل ملكا عليها، عقد المجلس الأعلى للحلفاء في مدينة سان ريمو الإيطالية في أبريل 1920 وقرر ردا على المؤتمر السوري تطبيق اتفاقية سايكس بيكو التي تقضي بوضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب الإنجليزي وتعهد مؤتمر سان ريمو كذلك بالعمل على تطبيق وعد بلفور.
فهل يمهد قرار الجامعة العربية الاخير بشأن سوريا، لنوع من تدخل اجنبي في المنطقة؟
وهل سيجري الآن تطبيقا جديدا لاتفاقية سايكس بيكو، واعلان انتداب جديد في المنطقة بادارة تركية؟
وهل هذا ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر استنبول الاخير مع دول الخليج؟
المؤشرات الى الآن توحي بأن أمرا كهذا جاري الاعداد له وبدقة متناهية.
كيف؟

كانت بريطانيا مرتبطة مع الإمارات العربية الواقعة على سواحل الخليج العربي وعمان بمعاهدات حماية. وما زالت....
كذلك فرضت بريطانيا حمايتها على مصر والسودان... واليوم استبدلت بريطانيا بأميركا، وجاري العمل على فرض الحالة السياسية الاميركية على مصر والسودان بآن معا.
وكما سيطرت إيطاليا على ليبيا من قبل، فإن بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأميركا يعملون من اجل السيطرة الكاملة على هذه الدولة التي حكمها القذافي اربعة عقود متواصلة.
أما المغربي العربي فقد بدأ التغيير فيه من تونس وليبيا..وجاري العمل تدريجا لتطويع المغرب والجزائر.
ولكن كل هذا لا يمكن ان يتم الا بمساعدة تركية مباشرة، لهذا نرى القيادة السياسية في تركيا تجوب بلاد المنطقة كلها، تمهيدا لاحياء دورها الحالي كعراب من اهل البيت، بدل ان يكون العراب من خارج المنطقة.

وللفت النظر الى اهمية الدور التركي بشكله الحالي كراعي وعراب وليس كمحتل، فلا بأس من التذكير انه تم تقسيم المنطقة التي ظهر فيها اسم الهلال الخصيب، بموجب اتفاقية سايكس بيك، فكان لفرنسا الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فأمتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعا بالإتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
وكانت معاهدة لوزان نصّت تعديل الحدود التي أقرت في معاهدة سيفر. وتم بموجبها التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية إضافة إلى بعض المناطق التي كانت قد أعطيت لليونان في المعاهدة السابقة.

واليوم لا مانع ان يجري نفس التقسيم اذا لم يتمكن حكام المنطقة والقيادات الامنية والسياسية والعسكرية فيها بالامساك المحكم بزمام الامور.
وهذا الامساك المحكم لا يبدو انه ستقوم له قائمة، وفق منطق الامور السارية حاليا في المنطقة، الا بمساعدة تركيا واشراكها بخطط الدفاع على مقدرات البلاد العربية.
وليس صدفة ان يكون هذا هو مطلب اميركي اوروبي ايضا.
ويبقى الدور الروسي الذي يبدو انه موضوع على نار باردة بانتظار حسم الامور على الارض في كل من سوريا ولبنان ومصر وايضا في الخليج العربي الفارسي.
ويبدو ان روسيا لا تستطيع في هذه المرحلة سوى المعارضة الدبلوماسية، ضد التقدّم السياسي السريع لاميركا واوروبا في المنطقة. وإن بدى منها عرضا لعضلات عسكرية في المنطقة، فكل التحليلات تؤكد على عدم قدرة موسكو في دخول صراع عسكري في الوقت الراهن.

قسمت هذه الاتفاقية وما تبعها سوريا الكبرى أو المشرق العربي إلى دول وكيانات سياسية كرست الحدود المرسومة بموجب هذه الاتفاقية والاتفاقيات الناجمة عنها وهي:
العراق، استقل عام 1932
منطقة الانتداب الفرنسي على سوريا:
سوريا، استقلت فعلياً عام 1946
لبنان، استقل ككيان مستقل عام 1943.
أما الأقاليم السورية الشمالية فقد ضمت لتركيا
منطقة الانتداب البريطاني على فلسطين:
الأردن، استقل ككيان مستقل عام 1946 (كانت منطقة حكم ذاتي منذ 1922) -  
فلسطين، انتهى مفعول صك انتداب عصبة الأمم على فلسطين يوم 14 أيار 1948 وجلى البريطانيون عنها.
لكن في اليوم التالي أعلن قيام إسرائيل فوق أجزاء كبيرة من حدود الانتداب البريطاني على فلسطين وبدأ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث في 1949 (إثر حرب 1948 وبعد إلغاء الانتداب البريطاني) قسمت فلسطين إلى ثلاث وحدات سياسية: إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة.
وسنعود الى هذا الموضوع بتفصيل اكبر.

والسؤال في موضوعنا اليوم:
هل ستعود تركيا لادارة شؤون المنطقة؟
واذا عادت... فهل سيعود العسكر العثملي؟
وماذا سيكون الموقف الفارسي؟
وكيف ستوافق روسيا؟
ربما تظهر بعض الاجابات قبل عرض المقال القادم.

سامي الشرقاوي

23‏/01‏/2012

كلام نصر الله الاخير صحيح...ولكن..


يؤكّد السيد حسن نصر الله في كلّ اطلالة اعلامية له على عمق الشرخ بينه وبين فئة كبيرة من اللبنانيين، ويصرّ في الوقت عينه أنّ معادلة الشعب والجيش والمقاومة هي المعادلة الفعّالة التي تؤتي أُكُلُها في لبنان.

من ناحية المبدأ، هذه المعادلة صحيحة وهي المثلى، بشرط أن يكون الشعب والجيش والمقاومة قلبا واحدا في الوطن، ليس عدّة قلوب كلٌ يضخّ وفق دينه وديدنه.

ومن ناحية المبدأ ايضا، فإن وجود مقاومة قوية منيعة لديها سلاح يقلق الامم المتحدة وأميركا واسرائيل، هو شيء عظيم ويُبهجُ القلوب، شرط أن لا يقلِق وجود هذا السلاح في الشوارع والمدن والبلدات، الناس العاديين الذين لا ينتمون الى حزب او حركة او تيار، وعادة ما يكونون الضحايا في اي عراك مسلح في الشوارع.

ولا يستطيع السيد حسن نصر الله ان ينفي وجود هذا السلاح المقلق بين ايدي انصار حزب الله (وهو يؤكد انهم "يملئون الساحات")، وايضا انصار باقي الاحزاب في لبنان. هذا السلاح الذي يظهر فجأة وبشكل مخيف ولأي ظرف من ظروف الخلاف حتى وان كان خلافا على اسبقية شراء سلعة من السلع او على افضلية مرور او حتى في خلاف عائلي أو شبابي بسيط.

وطالما يتكلّم السيد حسن نصرالله عن متآمرين تتربص بالمقاومة، يبقى الامر غير سليم، لا للمقاومة ولا للبنان، ولو كان رجال المقاومة تملأ الساحات والجبهات. لان المقاومة إن لم يكن لها ظهراً يحميها، تبقى عرضةً للطعنات.

وظهر المقاومة هو الشعب.
الشعب بكل اطيافه، وليس الشعب في معادلة على ورق وغير قابلة للتطبيق.
عند ذلك فقط تكون المقاومة مع الجيش والشعب الضمانة الصحيحة وربما الوحيدة، لامن لبنان وحماية كرامته وسيادته.
يقول السيد نصرالله ان المقاومة لن تسمح باحتلال جديد، وهو يريد ان يطمئن اللبنانيين بأنه لن تنتهك كرامتهم، لأن معادلة الشعب والجيش والمقاومة كافية لمنع العدو! ونحن منذ عام 2006 وبعد حرب تموز لم نر او نسمع او نلمح، أي مقاومة او حتى رد فعل بسيط، ضد اي انتهاك اسرائيلي لسماء ومياه واراضي لبنان، لا من المقاومة ولا من الجيش ولا من الشعب.
فكيف تستوي هذه المعادلة في حماية لبنان؟
السياسيون والاحزاب والحركات والتيارات والتجمعات المسلحة الغير لبنانية، هم جميعا الذين ينتهكون أمن لبنان وكرامته وسيادته قبل الاعداء. ويشرّعون الابواب لاعداء لبنان والمتآمرين على لبنان لان ينتهكوه ويغتصبوه متى ما حلى لهم هذا الامر وطاب.

أؤيّد السيد حسن نصرالله بكل قوة عندما يتحدّث عن عدم الركون الى الرهان على الجامعة العربية والامم المتحدة ومجلس الامن والاتحاد الاوروبي، لحل المسألة اللبنانية، لأنهم جميعا فشلوا وعلى مدى عقود في حل المسألة الفلسطينية، بل زادوها تعقيدا.
ولكنني لست من رأيه ان المقاومة انجزت التحرير في لبنان وغزة والعراق.
صحيح ان ضربات المقاومة في لبنان، ساعدت وبشكل كبير ان يتّخذ العدو الاسرائيلي قرارا بانسحاب مخزي من لبنان. غير ان المقاومة في ذلك الوقت كانت فعلا مقاومة شعب بجميع اطرافه وفئاته، وكان الشعب كله من دون استثناء وراء المقاومة اللبنانية بجميع فئاتها، وكان الشعب كله يتباهى بمقاومة حزب الله ويعتبر السيد حسن نصرالله قائدا عظيما في تاريخ المقاومة العسكرية ضد الاحتلال الاسرائلي.
ولكن هل نرى هذا الشعب كله وراء حزب الله اليوم، وهل ما زال السيد حسن نصرالله هو نفس القائد الذين كانوا ينظرونه قبل عام 2000؟
أما بالنسبة الى غزة والعراق، فأين الحرية في البلدين؟
شعب غزة محاصر، وشعب العراق منقسم على بعضه البعض في صراع لا يعلم غير الله نهايته.

أؤيد السيد حسن نصرالله بالكامل، عندما يتحدث عن حوار لوضع استراتيجية دفاعية للبنان، ولا أفهم السياسيين المختلفين مع حزب الله رفضهم أي حوار غير حوار نزع سلاح حزب الله.
ولكن وجب على السيد نصرالله ان يجد بيئة مناسبة لجمع اللبنانيين على طاولة حوار لا تتحدث عن نزع السلاح المقاوم. وفي هذا الشأن ارى انّ عليه وهو الاقوى بسلاحه، الذي يخيف شريحة كبيرة من اللبنانيين، أن يقدّم بادرة حسن نوايا. مثلا ان يُعلن نزع السلاح الخفيف والمتوسط لمناصريه من بيروت ومختلف المدن والبلدات اللبنانية. وأن يكون هذا الامر فعلا لا قولا.
لقد اقترح السيد نصرالله هذا الامر من قبل، فلماذا لا يصر عليه؟

وطالما ان هذا السلاح الخفيف والمتوسط في ايادي انصار حزب الله وباقي الاحزاب والحركات والتيارات، فإن تحميل السيد نصرالله مسؤولية حفظ الامن والسلم الاهلي الى الدولة اللبنانية والحكومة والجيش، يبقى في غير محله.... والحقيقة انه يريد الباسهم هذا القميص وهو يعلم انهم غير قادرين على حفظ الامن وحماية السلم الاهلي طالما ان السلاح موجود في البيوت والشوارع، وان اطلاق النار يسبق اي مبادرات حزبية وحركية وتيارية لوقفه.... وتبقى ايادي الدولة مكفوفة، ويبقى الجيش آلة لتثبيت أمن صنعته مرجعيات الفئات المسلحة... بمعنى الحارس الذي ينسحب عند أول طلقة.

أستغرب من السيد حسن نصرالله ان يدعو الى بذل كل الجهود للمساعدة على انهاء الازمة السورية، ولبنان غارق في ازمة اشد وادهى. وكيف يستطيع التأكيد ان الكل في سوريا حريص على شعبه وهو في موقع الاستجابة، ولا يستطيع ان يقول مثل هذا القول عن "الكل" في لبنان؟

من منطلق الانتماء البحت للعروبة ولبنان، أتمنى ان تكون المقاومة في لبنان فعلا مقاومة تُرعب العدو، وأتمنى أن يكون الشعب كله وراء المقاومة يحمي ظهرها، وأتمنى أكثر أن تكون عقيدة الدولة اللبنانية وجيشها وحكومتها، عقيدة أساسها مقاومة الاحتلال بالقوة، وليس بالدبلوماسية وفي اروقة الامم المتحدة.
وهذا الامر له فرصة كبيرة جدا ان يحصل اليوم.
لقد اضاع حزب الله رونق مقاومته في مستنقعات السياسة اللبنانية، وتكاد ان تجنح به الآفة المذهبية. لذلك ومن حرصي على المقاومة، وأن تستعيد هذه المقاومة رونقها المقاوم. أرى أن يحصر حزب الله سياسته بالمساهمة في تحسين المجتمع اللبناني، واتمنى بعد ذلك ان يصب جهده على اقناع الاطراف المختلفة معه على وضع استراتيجية دفاعية ترضي الجميع في الداخل وترهب اسرائيل ومن وراءها في الخارج.

تأكّد يا سيد حسن ان الكلّ في لبنان، مع لبنان وحريص على لبنان، لكنهم تاهوا كما تهتم في المناكفات السياسية البغيضة.
تأكّد ان الكل في لبنان ضد العدو الاسرائيلي، ومع مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. ولكنهم جنحوا كما جنحتم الى مكاسب غير منتجة يقنصوها من بعضهم البعض على حساب الوطن واستقراره وسيادته.

وكما يقولون عن الكرة، فهي اليوم في يدك وملعبك... فاحرص على ان تجمع كل اللاعبين معك، ومن كل الفئات والاديان والمذاهب والمعتقدات السياسية.

لانّك وحدك لا تقدر على حماية لبنان مهما بلغ عدد صواريخك، وجنودك.

ولانكم كلكم معا ... تحمون لبنان، وحتى بعدد أقل من الصواريخ.

فوحدتكم في لبنان هي أهم صاروخ تطلقونه بوجه اسرائيل ومن وراءها....
فهل انتبهتم يا سماحة السيد كيف يجمعون كل حشودهم وقواهم وحلفائهم وامكانياتهم وخبثهم ودهائهم، لمنع امتلاك لبنان مثل هذا الصاروخ؟

وهم الى الآن ينجحون بذلك.

سامي الشرقاوي.

22‏/01‏/2012

سيناريوهات متجددة للمنطقة والدور الروسي


منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وروسيا تبحث عن رد اعتبار لها في منطقة فقدت السيطرة عليها، بعد أن كانت تحضن أهم البلدان فيها: العراق، مصر، سوريا.
والحقيقة أن مصر جرى التسوية عليها بعد حرب 1973 بسبب توقيعها اتفاقية السلام مع اسرائيل، وجنح انور السادات بها نحو الراعي الاميركي. ويجوز ان الاتحاد السوفياتي قد ردّ على هذه الخطوة بتقوية منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في لبنان. الامر الذي لم يرضي اسرائيل التي اجتاحت لبنان عام 1982 وقضت على البنية التحتية لمنظمة التحرير واضطر ياسر عرفات اخيرا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي يعتبر الداعم الاكبر له، الى عقد اتفاقية سلام مع اسرائيل، وبهذا يكون انحاز هو ايضا الى الراعي الاميركي.
بالطبع كانت منظمة حماس الرد الروسي الطبيعي على هذا الامر.
ولم تضع الولايات المتحدة الوقت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فعمدت الى اختراع حجة لاحتلال افغانستان وتأمين تلك الجبهة حتى لا يفكر الروس بالعودة الى هناك مجددا، وحجة اخرى لاحتلال العراق والقضاء على آخر نفوذ روسي في الخليج العربي.
ولأن الخليج العربي الفارسي يعتبر من أهم النقاط الاستراتيجية في لعبة توازن القوى، سارعت روسيا الى دعم ايران بزخم في كل المجالات العسكرية والمدنية والاقتصادية وصولا الى المجالات النووية. الامر الذي لم يثر حنق الاميركان فقط، بل افقدهم صوابهم واربكهم، خصوصا وان تورطهم في افغانستان والعراق انهك قواهم، وزاد في الطين بلة تلك الازمة الاقتصادية التي ما زالت تعصف بهم ويجهدون لوضعها تحت السيطرة.
استفاد الرئيس السوري حافظ الاسد من كل تلك التخبطات بين الروس والاميركان، فقوّى وجوده السياسي وبلغ ذروته بعد ان نال موافقة اميركا بالسيطرة السياسية والعسكرية على لبنان. والحقيقة ان الهم الرئيسي الذي حدا الولايات المتحدة بالموافقة على هذا الامر هو تأمين جانب اسرائيل، والحد من انهاكها مرة اخرى من هجمات عسكرية على حدودها الشمالية مع لبنان.

ولأن ايران اظهرت نوعا من قوة ذاتية عسكرية وسياسية، ونجحت في تأمين العراق ليكون من ضمن نفوذها السياسي في المنطقة رغم وجود الاحتلال الاميركي هناك. كما نجحت في تأمين حزب الله كقوة لا يستهان بها في لبنان، عسكريا وسياسيا، يهدد امن اسرائيل يوميا. ولأن روسيا ماضية بلا تردد في دعم ايران مباشرة وحزب الله بطريقة غير مباشرة، فقد ارتأى الاميركان أن يضربوا ضربتهم في سوريا، الحليف الاستراتيجي لروسيا والامتداد الاستراتيجي ايضا لايران التي تصلها جغرافيا بلبنان حتى الحدود مع فلسطين المحتلة. وهذا الامر أكده اليوم قائد الحرس الثوري الايراني ان العراق حتى جنوب لبنان هم تحت سيطرة ايران، ومضى في زعمه ان ايران قادرة على انتاج حكومة اسلامية في لبنان!! وهذا الكلام يحتمل ردّا على ما يقال عن دعم الاميركان لحكومة اخوان مسلمين في سوريا.
وبديهي الاستنتاج ان بذور فتنة سنية شيعية يجري الاعداد لها بدقة.

فالولايات المتحدة لا تُخفي نواياها لزعزعة نظام الاسد في سوريا، حتى يلين او تقلب عليه كل الطاولات، بما فيها الطاولات المذهبية.
بيد ان هذه الطاولات المذهبية من السهل ان تنقلب ايضا على حزب الله في لبنان وقد بدأت معالمها تتضح.
واذا نجحت الولايات المتحدة في ازالة النظام في سوريا والمجيء بنظام يركن اليها، فإن ايران ستكون محاصرة فعليا من كل الجهات، وان كان معها العراق. فالعراق أمره سهل اذا تفشت فيه الآفة المذهبية.
لذلك فإن ايران تهدد اليوم باقفال مضيق هرمز، ليس فقط بسبب العقوبات الاقتصادية، بل ايضا بسبب شعورها بأن الخناق بدأ يشتد حولها ويضيق.

روسيا بالطبع لا تريد ان تكسب الولايات المتحدة في المنطقة المزيد من المكاسب، بينما هي في خسارة تلو الخسارة، وهي جادة بقولها ان سوريا خط احمر، وجادة بالتهديد بوجودها العسكري في البحر المتوسط.
ولكن لماذا كل هذا، وروسيا قبل الولايات المتحدة ليس لها القدرة المادية على اشعال حرب تكون فيها هي طرفا مباشرا، ولا اية قدرة اخرى، باعتبار ان الازمات الداخلية التي تعصف بها لا يستهان بها؟

يجوز ان روسيا تبحث عن تسوية كتسوية سايس بيكو، ويكون لها حصة في المنطقة، ويجوز انها تسعى لكسب سوريا مع ايران والعراق، ولتحقيق هذا المسعى فهي تفاوض على مصر وربما لبنان.
ولكن ما هو الثمن الذي تريد ان تقبضه ولقاء اية مساومة؟

اذا نظرنا الى منطقة الصراع الجاري حاليا في سوريا، سنرجع حتما بالذاكرة الى عام 1920 بعد الحرب العالمية الاولى، عندما قسّم الانتداب الفرنسي سوريا الى عدة أقسام مستقلة هم: دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة لبنان الكبير، دولة جبل الدروز، لواء الاسكندرون المستقل. ثم اضطرت لانشاء الاتحاد السوري  الفدرالي بين دمشق وحلب والعلويين، وفي عام 1924 قررت توحيد دمشق وحلب، وفصلت دولة العلويين التي استقلت وأخذت من مدينة اللاذقية عاصمة لها.
وعام 1925 عندما قاد سلطان الاطرش الثورة السورية الكبرى من السويداء في جبل الدروز، وقاد الثورة من حوران الشيخ اسماعيل باشا الحريري الرفاعي، لتشمل فيما بعد دمشق ولبنان واللاذقية. وانفصلت حلب ردا على الثورة بقرار من برلمانها الموالي لفرنسا. طبعا آنذاك لم يرض الحلبيون وانتفضوا بقيادة ابراهيم هنانو واحبطوا المشروع الفرنسي.
وفي عام 1930 أعلنت الجمهورية السورية تحت دستور جديد واتخذت علما تتوسطه ثلاثة نجوم حمراء ترمز الى محافظات دمشق وحلب ودير الزور.
وعندما تم توقيع معاهدة الاستقلال عن فرنسا عام 1936 وتوحيد كافة الاقاليم السورية بما فيها اللاذقية وجبل الدروز.
غير أن فرنسا رفضت ضم اقليم جبل لبنان بسبب معارضة الموارنة.
وفي عام 1940 وافق مسلمون لبنان على فصل جبل لبنان عن سوريا شريطة ان يتنازل الموارنة عن فكرة الحماية الفرنسية وقبول مبدأ الانتماء العربي للبنان. وتم لاحقا فصل اربعة اقضية كانت تابعة لسوريا بالتقسيم الفرنسي هم بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع. ونتيجة ذلك اطلقت فرنسا على لبنان اسم لبنان الكبير وصار لاحقا الجمهورية اللبنانية.
فهل روسيا تلعب على اعادة نفس السيناريو وتحل محل فرنسا للتشابك في مناطق يسيطر عليها الغرب والشرق؟ ويعود مسلسل الانقلابات العسكرية في سوريا، وتعود نغمة عصبة الامم لتأمين الوجود المسيحي في المنطقة والتدخل العسكري اذا لزم الامر لتأمين حمايتهم؟

وهل ستبدأ حالات تمرد وسط الجيش السوري كما حصل عام 1954، والتي أجبرت يومها الشيشكلي على الاستقالة والهرب الى بيروت ومنها الى السعودية؟ والتي أمنت عودة هاشم الاتاسي الى الحكم، ثم شكري القوتلي بعد خمس سنوات من النفي، الذي كلّف فارس الخوري بتشكيل حكومة كان من اهم اعمالها الحد من التوتر بين مصر ودمشق، نتيجة الحلف الذي يقيمه الغرب في المنطقة، وبسبب الاخوان المسلمين الذين اختاروا دمشق مركزا لهم؟

أم هل سيعقد حلف بغداد آخر ولكن هذه المرة بين ايران والعراق، ويكون بداية ثانية لشق العالم العربي أكثر مما هو منشق حاليا؟ وينتصر النظام في سوريا بدعم مباشر من روسيا وايران، ويحبط الجهود والمخططات الاميركية للاطاحة بالحكم؟ ويوضع الجيش السوري والجيش الايراني تحت قيادة موحدة وتصل الفيالق الايرانية الى سوريا وحتى لبنان؟

أم هل ستنفجر صراعات داخل حزب البعث نفسه، وتنبعث حركة تصحيحية تستلم مقاليد الامور وتنصب رئيسا جديدا للبلاد؟

الحقيقة ان كل ما يجري في المنطقة والآن تحديدا في سوريا ومصر، له علاقة مباشرة بأمن اسرائيل ووجودها. وتبقى اسرائيل القوة الجاهزة غب الطلب لتنقضّ على حزب الله في لبنان او على ايران نفسها. خصوصا وان الجيش السوري منهك في الصراع الداخلي، والجيش المصري منهك في الازمة الداخلية، والجيش الايراني منهك من العقوبات الاقتصادية.

نعود لمضمون اتفاقية سايكس بيكو سنة 1918.
فالتغطية الدولية لهذه الاتفاقية جاءت عبر مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919 حيث طرح المؤتمر مفهوما جديدا للاستعمار هو الانتداب الذي اقترحه الرئيس الأمريكي ويلسون ورئيس وزراء جنوب أفريقيا الجنرال سمطس وهو ينص على تولي دولة كبرى شئون الدولة التي لا عهد لها بالحكم فتساعدها الدولة المنتدبة حتى تصبح قادرة على إدارة شئونها بنفسها.
ونحن نرى اليوم ان دول المنطقة من لبنان وسوريا ومصر والعراق وحتى الاردن وغزة والضفة الغربية، كلها غير قادرة على ادارة شؤونها وغارقة في خلافات وازمات متواصلة.
فهل يجري اليوم اعداد العدة، لانتداب جديد في المنطقة تكون روسيا طرفا فيه؟
وهل آن الأوان لاعلان منطقة الهلال الخصيب؟
وهل هناك وعد بلفور آخر... وما هي عناوينه العريضة وحدود منطقته؟

وهل سيكون هناك معاهدة لوزان جديدة لتعديل الحدود، والتمهيد لتنازلات جغرافية بين دول في المنطقة لصالح دول اخرى او دويلات مستجدة؟

سيناريوهات عديدة والموضوع الاهم بالنسبة للدول الكبرى لدى عصبة الامم دون استثناء هو موضوع واحد: اسرائيل وأمنها.
وأمن اسرائيل لا يتم الا بتفتيت الدول المحيطة بها جغرافيا، وانهاكها عسكريا واقتصاديا، وإلهاء شعوبها بفتن مذهبية وطائفية.
هكذا حصل في الماضي، وهكذا يجري العمل لأن يحصل مجددا.
فهل ستستيقظوا وتصحوا من غفلتكم يا عرب؟

سامي الشرقاوي

08‏/01‏/2012

استحضرتُ لبنان والمنطقة في ذكرى والدي




في ذكرى والدي اليوم، قعدت مع نفسي، واطلقت لذاكرتي العنان لتغوص في بحر الماضي القريب، و"تنبش" منه مشاهد من زمان وعز ايام زمان.

تخيلتني أجلس في مسبح " السان ميشال" الذي كان يقع في الموقع الوسط من منطقة الاوزاعي في ضاحية بيروت الجنوبية، بين مسابح " الكوت دازور" و " السان سيمون" من جهة، و " الريفييرا" و" الساندز" من جهة اخرى. وكان يمتاز عن المسابح الأخرى، بكثرة شاليهاته، وتنّوع رواده، من سوّاح عرب وأجانب، وأناس عاديين وأولاد بلد طيّبين، من كل مذهب ودين. الى كبار مشاهير السياسة والفن والمجتمع والصحافة واهل الفكر والادب من عرب ولبنانيين. وكلّهم مغبوطين، فرحانين، في إلفة ومحبة منسجمين ... رزق الله.
ضاحية بيروت الجنوبية!!!!!!!!!!
سواح عرب وأجانب!!!!!!!!!!!!!!
مغبوطين، فرحانين!!!!!!!!!!!
كم تغيّر المشهد........

وتستفيض بي الذاكرة فأقفز من السان ميشال صعودا الى عروس المصايف "عاليه"، واتجوّل في ساحتها وأتنقّل بين مقاهيها: السان جيمس، شاهين، طانيوس، عويس، الدفوني، لا شاندال، بيارو، الجبيلي والبيسين. يا ألله... أنا فعلا أعشق هذه العجقة في الساحة. الناس "تتمشّى" على "الصفّين"، بين بائعي الذرة المشوية والمسلوقة، و"كشكيْن" وسط الساحة تأكل عندهما أطيب سجق وبسترما، وبائعي الجوز المقشّر ومنهم واحد يبيعك الجوز في النهار، وتراه في الليل يغني في مربع "عويس"، ولكنه يقنعك بأنه ليس هو بل أخاه التوأم.

كان والدي يحرص على أن يبدأ "الصيفية" في مدينة "عاليه" حالما يطل شهر أيار... ولا يتركها الاّ عندما يبدأ سقوط المطر
كيف حال الجبل الآن؟؟؟

وكيف حال بيتنا الذي تتوسّط شرفته بركة ماء وتطلّ عليها شجرتا "كرز" يمكن أن تغويا آدم وحواء مرة أخرى.

كنا نتجوّل بحرية وأمان في المناطق اللبنانية جميعها من بيروت الى عاليه وبحمدون وصوفر وشتورا وزحلة وبعلبك ورياق وجديتا ثم نمرّ على حمّانا ونأكل من "كرزاتها"، ثم فالوغا ونشرب من فوّارها، ونعود الى بيروت.
وحين يحن بنا الشوق الى التاريخ، نذهب من بيروت الى صيدا وصور ونعرج على المدن والبلدات الحدودية مع فلسطين المحتلة من الخيام، كفركلا، العديسة، الطيبة، رب الثلاثين، مركبا، حولا، ميس الجبل، محيبيب ، بليدا وعيترون وحتى بنت جبيل وجزين ثم نعبر الى الشوف فنزور المختارة وبيت الدين ودير القمر.
وننزل نحو اقليم الخروب الى بعاصير وعانوت وشحيم وبرجا وننزل ساحلا الى الدامور مدينة الموز والتراث ومنها الى بيروت.
ولم نكن نفكّر ان هؤلاء الناس في كل المدن والقرى لهم مذهبا آخر او دينا مختلفا، ولم نكن نشاهد اية تجمعات عسكرية او مظاهر مسلحة، ولم يكن في الحسبان ان نتوقف على حاجز امني أو يسألنا شخص مدني من أين أتينا وما هو ديننا ومذهبنا، أو ماذا نريد من قدومنا الى مدينة من المدن أولماذا سلكنا طريق من الطرق.

والحال نفسه اذا اردنا التوجه شمالا الى بلاد جبال وسواحل المتن وكسروان، فنزور بكفيا وبولونيا وبيت مري وبرمانا والقليعات واللقلوق وافقا ومزرعة يشوع وحريصا وننزل الى انطلياس ثم مدينة جونية ومنها شمالا الى مدينة جبيل بيبلوس الحضارة ومدينة البترون وصولا الى طرابلس الفيحاء نأكل فيها اطيب الحلويات ونعرج الى بلاد عكار ومنها نعبر الى بلاد الارز ونكمل المشوار حتى نرجع الى بيروت.

كل الطرقات سالكة وآمنة، وكل الناس يرحبون ويهللون ويضيّفون ويكرمون ولا يسألون عن دين ومذهب ولا يعنيهم شأن سياسي ولا يخطر على بالهم محاظير أمنية.

كيف هي حال هذه الطرقات اليوم؟؟؟

ولمّا وصلنا الى بيروت، أخذني والدي من يدي وتجوّلنا في العاصمة "الفتاة".
آه يا بيروت (من لم يستبيحك بعد؟).

"نزلنا" الى مسبح "الاوندين" في "منطقة الزيتونة"، فوقه ملهى "الكيت كات"، كان يغني فيه كارم محمود "سمرا يا سمرا". وكان محمد جمال يغني في ملهى "منصور" يصدح "بمواويله" ويطلب "حبيبة بنت 16 سني".
ثم زرنا حانات وملاهي ومقاهي "الزيتونة" امتدادا الى ملهى "فونتانا" في منطقة عين المريسة في رأس بيروت.
تذكرت الآن ان ابن صاحب ملهى فونتانا هو اول شهيد لبناني قضى في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي لبيروت عام 1982.
لم يكن أحد يسأل اذا كان مسحيا او مسلما ... شيعيا او سنيا. كان بطلا من بيروت لبنان اسمه خالد علوان، واجه افرادا من جيش العدو الاسرائيلي وحده في بيروت بصدره وسلاحه البسيط، فاستشهد بعد أن أردى العديد منهم.

وفي اليوم التالي.. أخذني والدي الى مقهى الحاج داود "ليشرب" هناك "نفس" "أرجيله عجمي"، ويراقبني وأنا "أغطس" في مسبح "الجمل" الذي يقع مباشرة تحت مقهى "الحاج داود".

ولمّا أحسست بعد السباحة بنشاط متجدّد، توجّه بي الى شارع "اللنبي" وتوقّفنا لنأكل "لقمة فول" عند "الحاج السوسي"، وبعدها قصدنا مبنى "ستاركو" الذي وضع أوّل سلّم كهربائي في الشرق الاوسط، فتمشّينا في أسواقه (أول أسواق مغلقة في الشرق الاوسط التي تسمى اليوم "مول")، وقعدنا في مقاهيه.

ثم قصدنا ساحة البرج، وكاد قلبي يقفز فرحا لما وجدته من حركة دؤوبة منتظمة وسائقوا سيارات الأجرة الى المصايف ينادون (عاليه، بحمدون، صوفر).

"أمم وخلائق" كلْ غادي أو قادم، في حركة لا تكل ولا تمل، والكل في سعي الى عمل أو قادم من عمل، لا تشعر أنّ فيهم من يتسكّع أو يسير فقط لمضيعة وقت.

والأسواق على جوانب الساحة: "فتفرّجت" على سوق الذهب، وسوق مال القبّان، وسوق النورية، وسوق اللحامين، وسوق السمك، ودرج خان البيض وسوق الدجاج، وسوق الخضار، وبائعي الحلويات والقطائف، وأفران بيروت بخبزها وكعكها الزكي الرائحة.

كما رأيت صالات السينما مصفوفة من سينما الاوبرا ومسرحها العريق الى سينما كريستال بصالتها "المبردة" (والتكييف كان عبارة عن رش سطل ماء من حين لآخر بين ارجل الرواد "ليبوْردوا")، والريفولي والامبير، الى شهرزاد والأمير والكابيتول، وتوقّفنا هناك عند موقف العسيلي لسيارات الأجرة، وعجبت من نظام حركتها وادارتها.

تطلّعت من هناك الى مسرح "التياترو الكبير" وقال لي أبي أن "كوكب الشرق" أم كلثوم قد غنّت حفلة او حفلتين هناك.
ورأيت "قبالة " تمثال (رياض الصلح) هناك، قهوة "عسّور" وغالبا ما كانت تدعى قهوة "القزاز" أي الزجاج ، بسبب نوافذها الكبيرة المطلة على الشارع.

وصعدنا قليلا من مفرق مبنى "العازرية" فرايت أيضا "سيارات "السرفيس" مصفوفة بانتظام على جانبي الطريق، كل سائق بدوره ينتظر رزقه.

"فرقنا" يسارا باتجّاه ساحة الدبّاس وشارع بشارة الخوري، فرأيت مسرح شوشو الوطني، ثم أخذنا طريق ساحة الشهداء، من خلف سينما "روكسي" وتوقّفنا عند بائع "النيفا"، وتابعنا حتى سينما ديانا، و "قطعنا" الشارع لنشرب من "كازوز" جلّول، (وكنت أحبّه بمذاق "التمر هندي").

ثم تمشّينا في اسواق الطويلة وايّاس وسرسق، ورأيت الدليل الذي يقف على باب سوق الطويلة، الرجل الأمّي الذي يتكّلم كل لغات العالم، ويرشدك الى المحلات في الاسواق لقاء عمولة يأخذها من أصحاب تلك المحلات.

وبين سوقي اياس والطويلة، استرحنا عند بركة العنتبلي، وشربنا "كبّاية" من " الجلاّب" وأكلنا "كاسة" "قٌشطلية" عليها "جزرية" و"قطر" و "كم رشّة" من ماء زهر.

ثم عرّجنا على مقهى الاوتوماتيك ليشرب والدي "فنجان قهوة"، واستأذنته لأذهب مقابله الى محل "الجليلاتي" بعد أن اشتقت "لكاسة سحلب" من عنده عليها "رشّة" قرفة.

استقلينا "ترام بيروت" الى باب ادريس فمررنا بمقهى "سميراميس"، وبعدها مررنا بمنطقة الجامعة الاميريكية وصولاً الى آخر "الخط" عند "منارة" بيروت.
أين ترام بيروت اليوم؟ كان يلفّ بك المدينة من اقصاها الى اقصاها بخمسة قروش!

 بعدها قرّرنا الذهاب الى الروشة لنجلس في مقهى "الدولشي فيتا" يسامرنا شلّة معظمهم من الفنانين والصحافيين والكتّاب والنقّاد. ولم يكن الحديث الا عن الثقافة والفن والترح والمرح، لأنه لم يكن هناك أي هم سياسي أو أمني.
وكنّا نقضّي جزءا من الوقت لنقرر أين نتعشى ونسهر، ام "نقضيها" على البساطة برأي "الصبوحة"، "فننزل" الى ذلك المطعم البسيط على "الجناح"، حيث يخدمك "أبو وجيه" مع كل أفراد العائلة، ويقدّمون لك المازات الشهية و"يقلون" لك السردين "البزري" والسمك، واذا كان ابو وجيه قد "توفقّ" في رحلة الصيد يومها، يقدّم لك صحن عصافير على ذوقك، يأكله هو وتحاسب به أنت.

رحمك الله يا والدي،لم يعد شيئا مما ذكرته موجودا، وبقيت أنت في قلبي وخاطري.
رحمك الله يا والدي وأسعدك في جنان الخلد، فنحن هنا على الارض نعيش جحيما دائما
رحمك الله يا والدي، وأنت المحظوظ الذي لم يشهد ما حلّ بهذا العالم من بعدك.

وأنا من بعدك في غيبوبة قسرية. توقّف قسري عن الحياة.

لا يمكن ان أصدّق ابدا انّنا احياء، نشاهد فعلا ما يحصل ونشهد فعلا على كل ما يدور حولنا.
وكيف يمحي الماحون ذاكرتنا.

ما زال كلامك يتردد في أذني وأنت تقول بعد حرب 1967 وبعد حرب 1973 : الله يستر العرب ويسترنا
وبعد حرب 1982 كنت تقول " الظاهر قررّ أن يعاقبنا أيضا في لبنان".

ومع اشتداد الحرب الأهلية في لبنان كنت تقول: "الظاهر أنه سلّطنا على أنفسنا".

ومع أنني بأشدّ الشوق اليك.، بل بأشدّ الحاجة اليك، فأنا لا أريدك أن تعود الى هذه الدار لترى أنّ كلامك صحيح، وتعدّى لبنان الى ما بعد بعد لبنان.

الى سوريا ومصر وفلسطين واليمن والعراق والسودان والاردن وبلاد المغرب العربي والخليج العربي وحتى ايران وافغانستان..والحبل على الجرّار.
ولم يعد هناك امن ولا امان لا في لبنان ولا في اي من تلك البلدان.

أوكّد لك بأننا فعلا نيام، ونشاهد فعلا حلما مزعجا، بل كابوسا يطبق على أنفاسنا ويكاد يقتلنا.
هل يا ترى سنفيق؟
هل سنفهم ونستوعب اننا مهما اختلفنا نحن اخوان؟
هل سنفهم ونستوعب ان خلافاتنا مستوردة ومدروسة وجاهزة للتطبيق؟

قرأت اليوم مقولة لصديقة سورية تحاكي وطنها وتقول: سوريا٠٠٠نحن أولادك .. نحن مختلفون ولكننا أوفياء لك......
صحيح .......
ولكن اذا نحن كلنا اوفياء لبلادنا فلماذا نختلف وعلى ماذا؟

رحمة الله عليك يا والدي، أتخيّلك تضحك من شرّ البلّية.

سامي الشرقاوي

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات