27‏/06‏/2011

سليم في بلاد الانكليز


أرجعتني الذكريات خلال إقامتي في عاصمة الضباب أثناء دراستي في جامعاتها، الى جملة أمور صاحبتني في تلك الفترة، استطعت من خلالها أن أمسك بحناني للوطن وأتمسّك بحبّي له وأشرب كأس انتمائي له حتى الثمالة.

كان صاحب الشقة التي "استأجرتها" في لندن، ظابطا بريطانيا متقاعدا، شارك في حرب العلمين، ثم أوفدوه ليعمل تحت الانتداب البريطاني في منطقتنا، ويشارك في الاشراف على الاحتلال الصهيوني لفلسطين وطرد الفلسطينين من بلادهم.
وكان يزورني كل اسبوع ليقبض قيمة الايجار، ويجلس ساعة أو ساعتين احيانا يحدّثني عمّا جرى في تلك البلاد أثناء خدمته العسكرية فيها.... وقال انه طلب نقله الى موقع آخر لأنه لم يستطع أن يستمرّ شاهدا على الظلم الذي كان يجري أيامها، والاذلال الذي كان يلحق بالشعب الفلسطيني هناك.
وكانت نظريّاته الفكرية والسياسية تنطلق من مبدأ "من معه" و "من ليس معه". وأن كل الشؤون السياسية الحاصلة في هذا الزمان هي تجارات مشروعة وغير مشروعة في معظم الاحيان. وكان يلوم انظمتنا العربية التي تقول ما لا تفعل، وشاركت عن قصد او دون قصد بعملية السلب الصهيونية التي حصلت.
وليقنعني بقوله قال ان الدول العربية مجتمعة هي دولا غنية، لو انها خصّصت مليون دولار لكل فرد فلسطيني، داخل الاراضي المحتلة وخارجها... لكانت وفّرت للفلسطينيين ان ينتقوا الملاذ الآمن، والمقاومة الأشد فعالية، مما يمكّنهم من استعادة حقوقهم وأراضيهم باستراتيجية أفضل وسرعة أكبر. ولكانت كلفتهم أوفر بكثير من المبالغ التي يصرفونها على حبك المؤامرات، وحروب تفرض عليهم يخسرونها ويخسرون حتى تلك التي يربحونها.
كان يعتقد ان الحرب الاهلية الحاصلة في لبنان بدأت فلسطينيا، في مؤامرة دنيئة لاغراق الفلسطينيين بإمور تلهيهم عن التفكير وتؤخّر خططهم باستعادة اراضيهم، كما تشتت اللبنانيين وتوقف تقدّم بلدهم الذي كان يعتبر "سويسرا الشرق" والملاذ الآمن لأهل الفكر والفن والمعرفة، وموقعا سياحيا عالميا من الدرجة الاولى. ولكن اللبنانيين اليوم يعيشون في اتون مشتعل من الحروب والمؤامرات بأشرس أنواعها، وباتوا يلتمسون الطرق والسبل ليتركوا ديارهم ويهاجروا الى الدول التي تسهلّ لهم تلك الهجرة.

هنا أخذتني ذاكرتي الى سليم، وهو ابن صاحبة البقالة قرب بيتنا، عندما زارني يوما وأعلمني أنه نوى أن يرحل عن البلد التي نهشتها الحرب القذرة ويتمنى ان يراني قريبا في بلاد الخنافس، وكنت ما زلت اتابع دراستي الجامعية في لندن.
لم أحمل كلامه على محمل الجد، وهو لا يملك غير بيت متواضع في الضيعة وبقالة تكاد تكفيه هو وامه الحنونة التي كنت كلما اراها اتذكّر الأم الطيّبة في السينما المصرية، فردوس محمد. اضافة الى انه نصف امّي، و"فهماته على قدّه" وبالكاد "يخلّص" باللغة العربية،  وليس له اي صلة في تلك البلاد غيري.
ولكنه نفّذ ما عزم عليه، ولم يكن يعتمد على اي شيء غير طيبته وبساطته، الذي توهّم انهما ايضا موجودتان عند القاصي والداني من البشر. وظن انه عندما يصل الى المطار، سيسأل أي شخص عني فيدلّه على عنواني. فالناس باعتقاده أخوة، والدنيا صغيرة، " ومصير الحي يتلاقى"، فلم يكن عنده ادنى شك بأنه سيلاقيني.

عندما وصل سليم الى مطار هيثرو، وسهّل له الله من يعينه في المرور من الجوازات والجمارك، ويخرجه الى الشارع، ويدلّه على " باص" ينقله الى المدينة، راح يسترجع مغامرات رحلته من بيروت الى لندن، وافتخر بنفسه لأنه استطاع لوحده ان يقطع تلك المرحلة. ورنا بنظره صوب سائق الباص، فلم يره، وظن أن "البوسطة" تسير من غير سائق، فقال في نفسه: سبحان الله آلات وماكينات وكل شيء يسير على الكهرباء. ولكنه جفل من هذه التقنية، وقال في نفسه : يقولون في السواقة، الخوف من غيرك، فمن الأسلم أن أنجو بجلدي وأنزل لأركب في "بوسطة" يقودها سائق أستطيع أن أتحاكى معه. فنزل عند أول "محطة" وقفت عندها "البوسطة"، وما كاد يحمد الله على نجاته من هذه الآلة العجيبة، حتى لمح السائق يجلس على الجهة اليمنى للمركبة يقودها بكل هدوء.
مشى سليم في الشارع وهو يحدّق في وجوه الناس: كلهم كشرين، مكشّرين، مستعجلين، معجوقين، لا "يصبّحون ولا يمسّون". ولكنه واصل المشي حتى وجد نفسه وسط مظاهرة... فدبّ به الحماس ، وراح يردّد هتافات وراءهم (يصرخ أي صراخ لا معنى له)، وتحمّس أكثر، فرفع من وتيرة صوته، وصار بصوته الجهوري يهتف أي هتاف مثل ( الكيلو بليرة يا بندورة)، والناس يردّدون وراءه، ولم تمض لحظات حتى اصبح هو قائد التظاهرة، فحملوه على الأكتاف والكل وراءه يهتف بحماس متأجج.
بحّ صوت الرجل وانتهت التظاهرة وتفرّقت، وتفرّق الكل من حوله، بعد أن شكروه وهو مذهول يريد أن يدفع نصف عمره ليعرف سبب تلك التظاهرة، وماذا كان يردد هؤلاء المجانين وراءه.
فجأة، انتبه انه بات وحيدا في باحة حديقة كبيرة، وبدأ الليل يهجم بصقيعه القارس، فوضع حقيبة ملابسه على الارض، وجلس ينظر حوله، ولاول مرة شعر بالفزع وايقن انه في ارض لا يدري غير الله اين تقع في هذا الجزء من البلاد.
هام على وجهه تلك الليلة، آبيا ان تخونه عزيمته، وراح يسأل عني كل من يصادفه في الشوارع، حتى شاءت الصدف أن يسأل رجلا عربيا، فهم لغته وعرف قصته، وأخذه الى منزله فآواه، وحاول أن يستدل منه على أية اشارة تستطيع ان توصله الي.
أمضى سليم عاما كاملا في لندن وانا لا ادري انه موجود فيها، حتى صادفته يوما في السفارة اللبنانية يجدّد جواز سفره، فحكى لي حكايته، وأخبرني انه قرر الذهاب الى اميركا بعد أن تعرّف على فتاة اميركية احبّته وارادت ان تتزوجه، واقنعته ان العمل في اميركا متوفّر اكثر هناك.
لا ادري اين هو الآن، ولكنني قصدت منزل والدته لاطمئن عليهما، بعد أن وجدت البقالة مقفلة، فقالوا لي انها سافرت عند ابنها الى اميركا. فاطمأن قلبي وحمدت الله.
حسرتي على هذا الشعب العربي الطيب، الذي ما زالت تنهكه الحروب والمعارك والسياسات السلبية، ويقض مضجعه الفقر والجوع، وينهش أفكاره الخوف وقلة الامان...

حسرتي على هذا الشعب العربي الطيب، الذي ضاع وسط لعبة الامم، ووسط الحروب الاسرائيلية، ووسط "صراع الاخوة" فيما بينهم، وقتلته أطماع ذوي القربى والاغراب، وفتكت به آلات القتل والدمار.
حسرتي على هذا الشعب العربي الطيب، الذي اضحى الوقود والاضحية، وبات الضحية التي تموت عدة مرات حتى نبذها الموت وملّ منها.
خوفي على هذا الشعب العربي الطيب وأتمنى ان لا يستمر يفعل ما فعله سليم الذي فرّ من شر الى أشر، ومن هالك الى مالك ثم الى "قبّاض الارواح".
يجوز ان لا يكون الحظ قد لعب مع سليم وسلم... فهل يسلم الآخرون؟

سامي الشرقاوي

25‏/06‏/2011

نصر الله مقتنع أنّه "بيظبّطها"!


لم أعرف الى الآن مسؤولا في بلادنا العربية، يطلّ اطلالات إعلامية متوالية في فترات زمنية متقاربة، كما يطلّ أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ليلقي خطابات متنوّعة بمناسبات مختلفة وأحيانا يختلق هو المناسبة ليلقي خطابه.

لا شكّ ان تسارع الاحداث في لبنان والدول العربية، وتضارب الاخبار وانتشار الاشاعات والقلق العنيف الذي يخيّم على حزب الله كما يخيّم على باقي الاطراف كلّهم، من الأسباب المهمّة التي تجعل السيد حسن نصر الله يكثّف من إطلالاته الإعلامية.

وأحيانا أفكّر مع نفسي، كيف يصل السيّد حسن الى قرار الظهور على شاشات التلفزة ليلقي خطابا؟ فأتخيّل أن إدارته السياسية تقف عاجزة أمام كمّ الاحداث والتقارير الاخبارية، وترى أن الحزب بات مستهدفا بشكل لا ينفع التعامل مع كل ذلك، الا بواسطة خطاب مباشر من السيد حسن ليعيد وضع الامور في نصابها الصحيح. فأتخيّلهم يقولون له "ما حدا بيظبّطها غيرك". فيهجم السيد حسن هجمته الاعلامية وهو مقتنع تماما أنه "ما بيظبّطها غيره"!

وأكاد أقتنع أنّ خيالي يلامس شيئا من الواقع، لأنني لا أستطيع أن أجد سببا آخر لتكثيف زعيم حزب الله من خطاباته وطلاّته الاعلامية.

وأظن أن السبب الرئيس الذي جعل السيد حسن يطلّ بخطابه الاخير، هو تناقل التقارير الاعلامية قصّة عناصر من حزب الله تم اكتشاف عمالتهم لاسرائيل، وراحت تلك التقارير تتوّسع بذكر معلومات مختلفة عن هوية المتعاملين وعددهم ونوعية وكيفية تعاملهم والى ما هنالك من تحليلات واستنتاجات تضيف الدسم الى المادة الاعلامية في تعاطيها مع خبر من هذا النوع.

وطبعا لا بد للسيد حسن ان يتطرّق الى موضوع الحكومة اللبنانية وتشكيلتها ويؤكّد انها صنعت في لبنان، وحزب الله جزء منها له أقل عدد من الوزراء!

ثم لا ينسى أن يذكر المناورات الاسرائيلية الجارية ويشرح نظريته بها، وأن يلاحظ أن اسرائيل لا تعتبر في الضفة الغربية عدّوا تجب الحيطة منه، فمثل الضفة الغربية كسائر الدول العربية والاسلامية، لا تريد محاربة اسرائيل ولا تشكّل خطرا عليها، بينما اسرائيل تخشى حزب الله وسوريا وايران وحركة حماس في غزة!
ثم يتحدّث عن الوضع العربي ليدعم النظام السوري ويدحض النظام في البحرين.

على كل حال، يبدو أن خطابات السيد نصر الله (وخصوصا خطابه الأخير) متوجّهة بالدرجة الاولى لتطمين شارعه وحلفائه خصوصا بعد القبض على عناصر من البيئة التنظيمية في حزب الله (حسب وصفه) بتهمة التعامل مع اسرائيل، وبيّن أن نوع التعامل لا يشكّل أي خطر أو تهديد أمني للحزب. وهذا شأن لا يختلف عليه اثنين، فالجماعة المتهمين هم جماعة الحزب وله الخيار في التعامل معهم. بيد أن الخلاف هو أنه طالما هذا الحزب هو حزب لبناني، وأنّ جريمة التعامل مع اسرائيل هي جريمة تهدّد أمن لبنان بنفس القوة التي تهدّد بها أمن حزب الله وربما أكثر، وجب على حزب الله احالة هذه القضية بجملتها الى السلطات الامنية، أو على الاقل التنسيق معها طالما أن هنالك متعاملين مع اسرائيل يكشفهم الامن اللبناني شهريا إن لم يكن اسبوعيا. يجوز أن الخوض في تفاصيل أمنية عن المقاومة يمنع الحزب من اشراك السلطات اللبنانية في التحقيقات، وفي نفس الوقت يثبت مدى بعد هذه المقاومة عن الدولة. 
لكن اتهام السيد حسن للسفارة الاميركية انها تجنّد المتعاملين، حافز أكبر على أن تتولى السلطات الامنية التحقيقات في تلك الاتهامات. ومن المستغرب أن لا يطلب زعيم حزب الله هذا الامر من الدولة اللبنانية!
وهذا يبقي القضية كلها في دائرة الجدل والاخذ والرد ويكون السيد لم "يظبّطها" في هذه النقطة.

الامر الآخر هو أن السيد حسن نصر الله تحدّث عن قمع المتظاهرين السلميين والعزّل في البحرين وقتلهم من قبل سلطات البحرين وجرّهم الى السجون، ولم يشر الى قمع الاجهزة السورية للتظاهرات السلمية في المدن السورية وعن القتلى والجرحى والمهجّرين من الشعب السوري وكأن الامر لا يعنيه!
أمّا اذا كان يقصد أن هنالك معارضة غير سلمية ومسلحة في سوريا فوجب عليه كشفها وتسميتها حتى لا يضع نفسه موضع المتحيّز الغير عادل، (خصوصا وأنه متّهم مع حزبه بالمشاركة في قمع تلك التظاهرات) ويلقى بعد ذلك انتقادات عنيفة خصوصا من المعارضة السورية (وهي جزء من الشعب السوري) مثل التي انطلقت فورا بعد انتهاء خطابه الاخير.
وبهذا يكون السيد لم "يظبّطها" أيضا في هذه النقطة.

أمّا في السياسة الداخلية، فإن السيّد حسن بدل أن ينأى بنفسه وبالمقاومة اللبنانية عن تفاعلات هذه السياسة، يقع كما في كل مرّة في مستنقع السياسة اللبنانية ويجلب لنفسه وللحزب وللمقاومة، كلاما نقديا لاذعا، في أدنى نتائجه يضعف المقاومة ويضعف الحكومة الجديدة.
ينسى السيد حسن دائما أن نصف الجمهور اللبناني على الاقل، وأكثر من نصف الجمهور العربي والاسلامي يعارضون حزب الله خصوصا بعد اقتحامه السياسة اللبنانية والسيطرة على ساحتها، لانهم يتّهمونه بالموالاة لايران والعمل على فرض نظامها الديني السياسي في لبنان.

ألم يكن من الافضل لحزب الله والسيد حسن نصرالله كسب الساحة اللبنانية بأسرها اضافة الى الساحات العربية والاسلامية لو بقيت المقاومة في سرمدها العالي المترفّع عن كل المهاترات السياسية وقذارات الجدل السياسي الجارية في لبنان والدول العربية؟

ألم يكن أفضل للمقاومة أن تستعد للحرب مع اسرائيل وهي في مأمن أن ظهرها محمي من كل لبنان ومن كل الدول العربية؟

لماذا هذا الامعان في زج المقاومة في السياسة، ووضعها في جانب غير مريح مع جزء كبير في الوطن العربي؟

لماذا هذا الاصرار المتكرر للسيد حسن نصرالله على ذكر مؤامرة التحريض الديني والمذهبي في كل خطاباته، بما يعني اتّهام الآخرين بهذا التحريض والذي يعني ايضا وقوع امكانية حصول هذا "الصراع المذهبي" في أي وقت، ولكن يكون السيد حسن قد حذّر منه تكرار!

من المنطق القول أنه طالما المقاومة اللبنانية لم تنه أعمال المقاومة بعد، وهي مستمرة لحين تحرير ما تبقّى من اراض لبنانية محتلة، وطالما أن حزب الله هو الادارة المدنية والعسكرية لهذه المقاومة، وبما أن سلاح المقاومة هو بإدارة حزب الله، وبما أن أطرافا لبنانية تخشى هذا السلاح أن يستعمله حزب الله في الداخل لفرض واقع سياسي معيّن كما ظهر أخيرا في اسقاط حكومة وتشكيل حكومة، وحتى يستطيع حزب الله استرداد ثقة اللبنانيين جميعهم، لا بد ان يجري الحزب كما اقترح السيد حسن نصرالله منذ فترة، صلحا سياسيا حقيقيا مع كافة الاطراف اللبنانية، ويلتفت الى مجابهة اسرائيل بالتكافل والتضامن مع الجيش اللبناني، حتى تصبح معادلة الشعب والجيش والمقاومة معادلة واقعية من صميم أمن الدولة اللبنانية (وليست فقط معادلة لفرض شرعية لبنانية لسلاح حزب الله)، وحتى لا يضطر أمين عام حزب الله في كل مرّة أن يطلق خطابا لشرح المتغيّرات التي تجري على الساحة.

وغير ذلك عبثا يحاول السيد حسن نصرالله "تظبيطها".

سامي الشرقاوي

22‏/06‏/2011

جار الله يجور على عبد الناصر


قرأت مقالا للسيد أحمد جار الله في السياسة الكويتية تحت عنوان جنس الملائكة والدم السوري.
في هذا المقال ينتقد الكاتب سياسة الرئيس السوري بشار الاسد وهذا من حقّه، وأنا أتابع كتاباته وآرائه، ويعجبني سرده الصحفي .
بيد أنّ احترامي وتقديري للكاتب، يحملانني على انتقاده بعد أن انتقد ايضا في مقاله الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ووضعه في خانة الرؤساء الذين لا يمتلكون القدرة على معالجة أمور شعوبهم، وذهب الى حدّ القول ان جمال عبد الناصر لعب على وتر استفزاز عاطفة الشعب وتوظيفها لمصلحة النظام، ووصف هذا النوع من التعاطي مع الشعب بأنه من أبشع مراحل استغلال الكوارث لتعزيز المجد الشخصي.
واستنتج الكاتب ان الوضع السوري الحالي يختلف عن وضع مصر عام 1967 حين وظّف عبد الناصر الهزيمة على الجبهة المصرية الاسرائيلية وخسارة الارض لمصلحة النظام بلعبة تقديم الاستقالة الى الشعب المصدوم والجريح ما ساعده على انقاذ نظامه من الانهيار.
أكرّر احترامي الكامل للاستاذ جار الله، لكنّي أرى أنّه جار جورا كاملا على الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وما يمثّله عبد الناصر من قومية عربية التي لولا أن ضيّعها المفترون، لكان حال العرب غير حالهم الذي نشهده اليوم وقد وصل الى الدرك الاسفل.
إن افتقاد العرب لقوميتهم، وتاريخهم وتراثهم أضاع هيبتهم وقلّل من احترام الغرب لهم، بل أكثر من ذلك، وجدت دول الغرب حالة كانت تائهة عنها، وهي أنّها باستطاعتها السيطرة على العرب وسياستهم من دون استعمارهم فعليا، وهذا أقوى أنواع الاستعمار.
لا يمكن غضّ النظر عن سلبيات متعدّدة رافقت جمال عبد الناصر إبّان فترة حكمه، ولا يمكن نكران فساد كثير من المسؤوليين الذين تعاقبوا في فترة حكمه.
الاّ أنه لا يمكن أيضا نكران قوة شخصية هذا الزعيم الذي لم يكن بحاجة الى بذل مجهود كبير كي يهيم شعبه بحبه، وتعشقه باقي الشعوب العربية من المحيط الى الخليج.
ولا يمكن تجاهل الرهبة التي ألقاها جمال عبد الناصر في قلوب أعداء الأمة العربية، فباتوا يحسبون ألف حساب قبل أن يقوموا بأي عمل ضد مصر.
ولا يجوز أن نظلم الرجل وهو الذي طرد الاستعمار البريطاني من مصر، وأعاد إيرادات قنال السويس الى خزينة الدولة المصرية، بعد أن كان البريطانيون يسرقونها يوميا.
ولا يصحّ أن نبخس الرجل حقه ولا نذكر انتصاره على العدوان الثلاثي عندما حاولت فرنسا وبريطانيا مع اسرائيل استرجاع قنال السويس بالقوة العسكرية.
لذلك فأنت يا سيد جار الله تظلم الرجل بقولك أنه كان يحتال على شعبه ليحبّه، وأنه كان يلعب على وتر العاطفة لتعزيز مجدا شخصيا له.
لو كان كلامك صحيحا لما مات عبد الناصر وفي جيبه بضعة جنيهات، وفي حسابه لدى المصرف ثروة لا تتجاوز 3000 جنيه لم يترك غيرها ميراثا لزوجته وأولاده.
فعن أي مجد تتكلّم يا سيد جار الله؟
ولو سلّمنا جدلا أن كلامك صحيح، وأن عبد الناصر احتال وتلاعب على شعبه كي يحبه ويكسب مجدا شخصيا، فكيف تفسّر لنا عشق الشعوب العربية الاخرى ومنها شعب الكويت الكريم لعبد الناصر.
لماذا أسمت دولا عربية مختلفة ساحات وشوارع بإسم جمال عبد الناصر؟
وهل لعب جمال عبد الناصر على عاطفة الشعوب العربية الاخرى، لينزلوا الى الشوارع بعد نكسة 1967 وبعد اعلان عبد الناصر تنحّيه عن الحكم، ليطالبوه بالرجوع عن قراره، ويتحمّلوا مسؤولية الهزيمة معه.
كلامك يا سيد جار الله لا ينقص الرجل شيئا من مجده وخلود زعامته، ولكنه يحط بقدْر الشعب المصري خاصة والشعوب العربية بشكل عام، لانّه وإن بطريقة غير مباشرة يصف هذه الشعوب بالسذاجة والانجراف وراء العاطفة حتى ملامسة البلاهة.
هل يعقل يا سيد جار الله ان تصل قدرة رجل واحد الى اللعب على عواطف شعوب بأسرها كي تحبّه وتكرّمه وتمجّده؟ طبعا لا يمكن لشخص واحد أن تكون له هذه القدرة ولو كان لديه جيش من المعاونين المخلصين. فما بالك عندما يكون معظم المسؤولين في فترة حكمه هم أعداءه الأقربين. ودليل ذلك محاولاتهم المتكررة لاغتياله أو الانقلاب عليه!
وأعود الى القومية العربية، لاكرر وأؤكّد أن عبد الناصر زرعها في قلوب الشعوب العربية، وأحيا فيهم انتمائهم الى قوميتهم، وأثار فيهم الحماس للدفاع عنها بشتى الطرق والوسائل.
وما محاولته وحدة الشعوب العربية الا من ضمن تعزيز القومية العربية، غير ان المفترين عليها من الداخل حاربوه وحاربوها وحاربوا فكرة الوحدة العربية قبل أن يحاربها الغرب والشرق، بما فيهم من كان على حلف أو صداقة سياسية مع الرجل.
وموت القومية العربية، أوقف نبض الشارع العربي، الى يوم أفاق في تونس ومصر وبدأ يطالب باسترداد حريّته وقوميته.
للأسف دخل جميع من يريد تجيير الحراك الشعبي لصالحه على خط الثورات العربية، فصار الاميركان ثوريون عرب، وصارت أوروبا ثورية عربية، وصارت ايران ثورية عربية، وربما روسيا والصين واميركا اللاتينية كلّهم باتوا ثوارا عربا.
تحرّك الجميع لكسب الثورة العربية الاّ جامعة الدول العربية التي لم نلحظ لها تحركّا سوى مطالبة مجلس الامن بالتدخل العسكري في ليبيا وانهاء النظام هناك.
للأسف دخل الغرب عسكريا في ليبيا ولم ينه النظام ولم يساعد الثوار الليبيين الاّ بالجزء اليسير وبالتدريج وفق هوىً سياسيا يريد الغرب أن يفرضه هناك.
وهذا ما يحصل تماما في سوريا واليمن ومن قبل في السودان وسيحصل في المغرب العربي، وسيحصل في ما تبقى من اراض فلسطينية يستطيع شعبها رفع العلم الفلسطيني.
وسيحصل أيضا في لبنان بنفس الزخم الذي يحصل في العراق وربما يمتد الى الخليج العربي ودليل ذلك المحاولات التي حصلت في البحرين.
هذا الواقع للأسف حاصل وسوف يحصل لأننا فقدنا قوميتنا العربية وصرنا ننادي بقوميات أخرى غريبة عن أصولنا وتقاليدنا وأعرافنا وتراثنا.
ربما عرفت جامعة الدول العربية خطأها فسكتت ... وهذا أفضل لها وللانتفاضات الشعبية في باقي الدول العربية.
ربما يا استاذ جار الله، لم يكن جمال عبد الناصر أحسن رئيس جمهورية في الوطن العربي، الاّ أنه بلا شك أقوى وأشرف زعيم عربي في التاريخ الحديث.
كما أننا لم نجد رئيسا حكم أي بلد في أمّتنا العريقة كان أحسن منه، أو قدّم لبلده مشروعا على مستوى مشروع السد العالي، أو أدخل الى ميزانية بلده ايرادات بنسبة ايرادات قنال السويس.

أحبت الشعوب العربية جمال عبد الناصر بقدر ما كرهته الانظمة الغربية والانظمة الحليفة لها في الساحة العربية.
ووثقت به الشعوب العربية بقدر ما حذرت منه اسرائيل.
وعندما اجتمع الغرب كله، والانظمة العربية الحليفة للغرب، وأعداؤه في داخل مصر، واسرائيل ضد جمال عبد الناصر خسر الحرب بخدعة قاتلة.
ولمّا لم ينته عبد الناصر بعد حرب الـ 67 واستطاع 100 مليون عربي ان يثّبتوا زعامته ولو خسر حربا، ليقودهم مرّة اخرى باصرار وعزم الى نصر مؤكّد، اجتمع الجميع مرّة أخرى عليه حتى مات الرجل.
ولكن بقي الزعيم!

والى الآن لم يستطع أي رئيس أو أمير أو شيخ أو ملك عربي جاء بعده أن يكسب جزءا صغيرا من ذلك الحب الجارف الذي تختزنه غالبية الشعوب العربية من أجيال عاصرته ومن أجيال جديدة لم تعرفه عن قرب، لجمال عبد الناصر.
لماذا؟
لسبب بسيط، هو انّ عبد الناصر كان صادقا مع نفسه ومع شعبه، وكان يجاهد بإسم القومية العربية، وبإسم كل فرد من أفراد الشعب المصري والسوري واللبناني والمغربي العربي والخليجي العربي والاردني والفلسطيني بغض النظر عن دينه ومذهبه وانتماءه الحزبي....

وأعود لأسأل أسئلة كنت سألتها من قبل:
هل نرى اليوم زعيما عربيا له هذه المصداقية؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا محررا من مرجعيته الحزبية أو الدينية أو المذهبية؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا يستطيع ان يعمل من دون ان يحسب ألف حساب أقليمي ودولي؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا يلقي خطبة يستمع اليها كل الشعب العربي دون استثناء؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا يتردد اسمه على ألسنة كل الجماهير العربية دون استثناء؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا تخفق له كل القلوب وتبتهج به كل الخوالج وتذرف من أجله كل الدموع؟
هل نرى زعيما عربيا على الاطلاق؟
أستطيع أن أجزم أننا وليومنا هذا لا نرى الا جمال عبد الناصر.

سامي الشرقاوي

19‏/06‏/2011

لبنان: الانتصار السخيف والانكسار المخيف


بعد ولادة الحكومة اللبنانية الجديدة، والتي تحمل هوية مختلفة وعنوانا جديدا لا بد من الانتظار ومراقبة مسيرتها السياسية وكيفية تعاطيها مع مختلف التحديات الداخلية والخارجية.
يجمع هذه الحكومة عنوان واحد وهو تغيير الحالة الحريرية التي سيطرت على لبنان السياسي منذ عام 2005 وحتى استقالة آخر حكومة برئاسة سعد الدين الحريري.
غير ان بعد هذا العنوان، فإن الحكومة الجديدة تنقسم الى وجهات نظر ان لم يكن استراتيجيات مختلفة، وكل فريق داخل هذه الحكومة له ايدولوجية سياسية مختلفة جملة وتفصيلا عن الآخرين، ولذلك سيكون من الصعب اخراج سياسية موحدّة في وجه الاعاصير التي بدأت تتجمّع للانقضاض عليها مرّة واحدة واخراجها من المسرح اللبناني.
لذلك فإن الاعتداد بأي انتصار سياسي للأكثرية الحالية في لبنان يمكن ان يُعتبر بمثابة حث الفرقاء على العمل لانجاح سياسة الحكومة الجديدة، ويُسجّل فقط في خانة الفرحة بتحقيق فوز مهم في الملعب السياسي.
أمّا المعارضة الحالية في لبنان، فهي كما كان حالها يوم كانت اكثرية منذ امد غير بعيد، تبدو غير متناسقة وغير متجانسة، وتلقي الكلام العشوائي الذي لا يرتكز الى موضوعية معيّنة ويحمل فقط فوقية عجيبة لم يستطع هذا الفريق ان ينزعها عنه.
وفوقية الاكثرية الحالية لا تختلف كثيرا، لانها لا تستند الا على قوة السلاح الموجود لدى حزب الله، والذي يتلطّى كل حلفاء حزب الله وراءه، وهذا السلاح مدعوم أصلا من سوريا وايران والقوى العالمية التي تختلف مع الولايات المتحدة والغرب الاوروبي وتريد تسجيل نطاق ضدّها ومحاورتها على المسرح السياسي اللبناني.
أمّا فوقية المعارضة الحالية، فهي لا تستند الاّ على الدعم الغربي والخليجي العربي، وهو دعم لا يرقى الى مستوى وضع لبنان أولوية على جدول اعمال تلك الدول، بل كان هذا الدعم ولا يزال يقف عند حدود "الطبطبة" على الاكتاف، والحث على الثبات في الموقف، وتقديم مساعدات مختلفة بين حين وآخر.
ويبدو أن الوقت لم يحن بعد لتغيير الطاقم السياسي اللبناني بغض النظر الى اي فريق من الفريقين ينتمي، اذ أن معظم هذا الطاقم من الهواة، ووجودهم على الساحة السياسية هو وجود اعلامي فقط، ويبقى تصنيفهم ينحصر في خانة "موظّفين للإعلام" حيث لا ينطبق عليهم أي صفة من صفات الاحتراف السياسي.
ويجوز أن الاحزاب السياسية برمّتها في لبنان هي "مؤسسات اعلامية" تابعة لـ"مافيات سياسية" تسيطر على انظمة دول اقليمية وعالمية.
والى أن تنجلي الامور في منطقة الشرق الاوسط، حيث تجري حركات شعبية عارمة، تهدف الى الاطاحة بأنظمة حكمت أوطانها منذ نهاية الحرب العالمية الاولى ولم تزل، فإن الوضع "الفوضوي" القائم في لبنان يبقى قائما، ولا يهم الى اي من الفريقين انتمت الحكومة اللبنانية، فكل الافرقاء متواجدون تحت سقف واحد يسمّى "خدمة سياسة الدول الاقليمية والدولية".
الدليل على هذا الكلام، انه منذ اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية المؤسفة في لبنان، فإن صراع القوى اللبنانية يتبع نفس الاسلوب السياسي الامني، بواسطة جزر سياسية أمنية وضعت في لبنان بتمويل خارجي وما زال المموّلون الى الآن يتحكّمون بهذه الجزر، بواسطة نفس اللبنانيين وإن تغيّرت وجوه بعضهم مع مرور الزمن.
والوضع اللبناني بالاساس، يتأثر بالمعضلة الفلسطينية، التي تتصارع القوى الدولية والقوى الاقليمية فيما بينها على ايجاد حلول لها.
والمعضلة الفلسطينية هي بالدرجة الاولى صنيعة تلك الدول، عندما ألغت بقرار أممي دولة عن بكرة أبيها وأوجدت دولة أخرى مكانها، لتتربع على خريطتها الجغرافية والسياسية.
والدولة الجديدة التي حظت على عطف الدول الغربية والشرقية معا، أشعلت بوجودها نار الطائفية البغيضة على امتداد الشارع العربي الشعبي.
والمؤسف أن الانظمة العربية، استغلّت ظروف انشاء اسرائيل والغاء فلسطين، فأبقت على تلك الظروف واستغلّتها لمصالح ذاتية، ثبّتتها في حكم الاوطان العربية الى الآن.
وربما فطنت الدول الغربية، الى أن الشارع العربي هو أهم قوة تستطيع بواسطته التخلي عن انظمة هي صنعتها، وقد انتهت مدة صلاحيتها، فانحازت الى الشعب لتدعمه لتغيير نظام الى نظام آخر هي تريده أو الى تغيير شخص في نظام دون تغيير النظام.
الرهان هو الآن على الشعوب العربية، التي أثبتت أنها تتمتع بنضج كامل، وتستطيع قراءة الواقع السياسي والامني والجغرافي والتاريخي والديني والمذهبي والعرقي في منطقة الشرق الاوسط وخاصة في البلدان العربية وايران وتركيا.
والشعب اللبناني هو شعب بغالبيته شعب مثقّف تماما كما الشعب المصري والشعب السوري والشعب العراقي والشعب الاردني والشعب الفلسطيني والشعوب المغاربية والخليجية بما فيها الشعب الايراني، التي لها اصول عريقة في بناء حضارات تاريخية أسست لثورات علمية وثقافية لها بصمات واضحة في المجتمعات الانسانية في العالم المدني بأسره.
يبقى الرهان على هذا الشعب اللبناني بأغلبيته الصامته، أن ينزع عنه رداء الخوف، ويهب بوجه تلك الحفنة السياسية المفروضة عليه، ويعمل على استرداد حقوقه في الرأي والسياسية والامن والعيش الكريم.
غالبية الشعب اللبناني تعيش "يوما بيوم" وبالكاد يستطيع رب العائلة تأمين القوت اليومي لأهله وعياله دون خوض بحار من الصعاب والعقبات والخضّات الامنية والسياسية.
فمن من الاحزاب والشخصيات السياسة اللبنانية اليوم ومنذ عام 1943 عمل جاهدا ومخلصا لتخليص هذا الشعب اللبناني من محنته.
بل على العكس تماما، رأينا كل السياسيين يغرقون الشعب اللبناني بويلات متتابعة، ويعمدون الى تقسيمه وتفتيته واضعافه حتى الموت.
وأخيرا طلع على هذا الشعب "المعتّر" سياسيو التهريج الذين بدأوا يستعملون فلسفة "اللسان السليط"، الذي تشمأزّ منه الآذان والنفوس، ويؤجج لصراعات طائفية من نوع مختلف.

انتصار أي فريق في لبنان هو انتصار سخيف لأنه ليس انتصارا للشعب اللبناني.
وانكسار أي فريق في لبنان هو انكسار مخيف، لأنه ينبيء بويلات قادمة على الشعب اللبناني.
لقد عاش الشعب اللبناني هذه التجارب.
فهل تغيّر أي شيء اليوم؟

سامي الشرقاوي

09‏/06‏/2011

الشرق الاوسط قبل وبعد الحرب العالمية الاولى


 ماضي، حاضر ومستقبل مهد الحضارات (8)

المحطة العشرون .... تابع الامبراطورية العثمانية

والشرق الاوسط هنا هو البلاد الممتدة من شمال افريقيا الى شبه الجزيرة العربية الى بلاد ما بين النهرين الى بلاد الاناضول والشام والمشرق العربي شرقي البحر الابيض المتوسط امتدادا الى بلاد كنعان فلسطين والاردن.
أسسس العثمانيون أقوى دولة اسلامية في العصر الحديث، استطاعت دحر الصليبيين، والسيطرة على بلاد كنعان وشبه الجزيرة العربية وشمالي افريقيا. واستولوا على بلاد اوروبا الوسطى امتدادا الى البلقان، كما اجتاحت جيوش الدولة العلية جنوب ايطاليا واخذوا قبرص وحاصروا فيينا عاصمة النمسا. وسيطرت اساطيلها على طرق التجارة البحرية في البحر الاسود والبحر الابيض والبحر الاحمر امتدادا الى الخليج العربي الفارسي وبحر الهند.
الا ان ضعف الدولة العثمانية في أواخر عهدها جعل الدول الأوروبية تتآمر لاستباحتها امنيا وسياسيا، فأثاروا ضدها الحركات السياسية والدينية والعرقية اضافة الى التمردات الداخلية التي أسعرتها ضد الدولة العثمانية، التي وصل ضعفها الى أوجّه حين أعلن محمد علي باشا والي مصر انفصال مصر واستقلالها عن الدولة العلية. ثم جاءت الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية لتكرّس انفصالا دينيا وتلغي خلافة السلاطين العثمانيين.
أمّا في الداخل فقد برزت جمعية تركيا الفتاة، التي استطاعت أن تضع لها قدمًا في الجيش العثماني، وكان لها جناح عسكري عرف بتنظيم الاتحاد العثماني  وجناح مدني هو الانتظام والترقي. عرفت هذه الجمعية فيما بعد باسم "الاتحاد والترقي"، وتمتعت بنفوذ قوي حيث انضم إليها الكثير من ضباط الجيش المسيطر على الآستانة، وكذلك الفرق الباقية في أوروبا. فرض الإتحاديون على السلطان إعلان دستور جديد للبلاد وسيطروا على معظم مقاعد المجالس النيابية، وعندما وجدوا أن السلطان سيكون عائقًا في تحقيق أهدافهم، عزلوه.
في ذلك الوقت سيطرت الإمبراطورية النمساوية المجرية على البوسنة والهرسك، ثم هاجمت إيطاليا ليبيا، آخر الممتلكات العثمانية الفعلية في شمال أفريقيا. ثم جاءت حرب البلقان الأولى ففقدت فيها الدولة العثمانية ما تبقى لها من ممتلكات في البلقان عدا تراقيا الشرقية ومدينة أدرنة.
في تلك الفترة ظهرت النزعة التركية الطورانية بقوة وعنف، وسعى حزب الاتحاد والترقي إلى تتريك الشعوب غير التركية تحت ظل الدولة العثمانية، مثل العرب والشركس والأكراد والأرمن. وفي سنة 1913م عقد الوطنيون العرب مؤتمرًا في باريس، واتخذوا مقررات أكدوا فيها على رغبة العرب في الاحتفاظ بوحدة الدولة العثمانية بشرط أن تعترف الحكومة بحقوقهم، كون العرب أكبر الشركاء في الدولة.
عندما قرر محمد علي أن يجتاح بلاد الشام بالقوة عام 1831، وجّه جيشه إلى فلسطين وأخضعها، ثم زحف على مدن الساحل اللبناني وفتحها الواحدة تلو الأخرى، وسرعان ما لحقت بها سوريا الوسطى والشمالية، وامتد زحف الجيش المصري إلى الأناضول،  فسارعت روسيا لنجدة الآستانة والدفاع عنها، وخشيت بريطانيا وفرنسا من امتداد النفوذ الروسي وتوسطت للصلح مع محمد علي، حيث أقر له السلطان بولاية مصر وجزيرة كريت وفلسطين ولبنان وأضنة. وفي غضون ذلك توسّع النفوذ الروسي في الدولة خصوصًا بعد أن أبرم السلطان معاهدة مع روسيا تعهدت فيها الأخيرة بالدفاع عن الدولة العثمانية لو هاجمها المصريون أو غيرهم.
اجتمعت كل من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا وعقدوا اتفاقية صدّق عليها العثمانيون، تنص على بقاء ولاية مصر وراثية في عائلة محمد علي، وولاية عكا مدى حياته، فرفض محمد علي ذلك وطرد المندوبين الأوروبيين والمندوب العثماني من مصر، وبناءً على ذلك هاجمت البوارج الحربية البريطانية والنمساوية والعثمانية مدن الساحل الشامي واستطاعت أن تحرز انتصارًا كبيرًا على الجيوش المصرية التي كانت تحت قيادة إبراهيم باشا، وأجبرته على العودة إلى مصر والانكماش فيها، وبذلك عادت الشام إلى ربوع الدولة العثمانية، وأصبحت سيادة الدولة على مصر سيادةً اسميّة.
توصلت الدول الأوروبية الكبرى، بعد انتهاء الأزمة العثمانية - المصرية، إلى عقد اتفاقية جماعية مع الدولة العثمانية، أُطلق عليها تسمية "معاهدة المضائق" أو "اتفاقية لندن الخاصة بالمضائق"، وقد أرست هذه الاتفاقية نظامًا للمضائق العثمانية ظل مطبقًا بدون إدخال تعديلات جوهرية عليه حتى قيام الحرب العالمية الأولى.
في أواخر عهد السلطان عبد المجيد الأول، نشبت عام 1860 فتنة طائفية كبرى في الشام، وتحديدًا في دمشق وسهل البقاع وجبل لبنان بين المسلمين والمسيحيين عمومًا، والدروز والموارنة خصوصًا، فوقعت مذابح مؤلمة، وكان ممثلي بريطانيا وفرنسا يشجعون الفريقين على الانتقام ويساعدونهم على الثأر، فخشي السلطان أن تؤدي هذه الفتنة إلى تدخل الدول الأجنبية العسكري، فأمر بإخمادها حالاً. وكانت الدول الأوروبية قد ضغطت على السلطان وحملته على القبول بتشكيل لجنة دولية يوكل إليها أمر إعادة الهدوء إلى جبل لبنان ودمشق، وتصفية ذيول الفتنة.
قدّمت الدول الأوروبية الكبرى لائحة للدولة العثمانية تقضي بتحسين الأحوال المعيشية لرعاياها المسيحيين، وفرضوا مراقبة اوروبية لتنفيذ إجراءات التحسين. فرفضت الدولة اللائحة؛ لأن هذا يعتبر تدخلاً صريحًا في شؤونها. استغلت روسيا هذا الرفض واعتبرته سببًا كافيًا للحرب، وفي هذه المرة أطلقت أوروبا العنان لروسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيين، فاحتلت الأفلاق والبغدان وبلغاريا ووصلت أدرنة وأصبحت على بعد 50 كيلومترًا فقط من الآستانة، كذلك دخلت جيوشها الأناضول، وعادت الصرب والجبل الأسود لتعلن الحرب على الدولة العثمانية، فاضطرت الأخيرة إلى طلب الصلح، وأبرمت معاهدة سان ستيفانو مع روسيا عام 1877، التي اعترفت فيها باستقلال الصرب والجبل الأسود والأفلاق والبغدان وبلغاريا، ثمّ تمّ تعديل هذه المعاهدة في مؤتمر عُقد في برلين تمّ بموجبه سلخ المزيد من الأراضي عن الدولة العثمانية.
في تلك الفترة برز حدثان كبيران ألقيا بتقلهما على الدولة العلية بشكل خاص والمنطقة بأسرها عموما، هما الأزمة الأرمنية وقيام الحركة الصهيونية.
فقد عملت البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية على إذكاء الشعور القومي الأرمني، وفي الوقت نفسه اعتقدت الدوائر الحاكمة في الآستانة أن بعض الأرمن يعملون كعملاء لروسيا وبريطانيا، وساورها الشكوك حول ولائهم، ومن ثم نظرت إليهم على أنهم خطر يهدد كيان الدولة ومستقبلها وأمنها. ولم تلبث أن عمّت الاضطرابات أنحاء أرمينيا، وأخذ الثوّار يهاجمون الموظفين الحكوميين العثمانيين، وقاموا ببضعة مجازر في بعض القرى الإسلامية الكردية، فقام العثمانيون بالرد على ثورة الأرمن بأن أرسلوا جيشًا مؤلفًا بمعظمه من الأكراد إلى مناطق الثورة حيث دمّروا العديد من القرى الأرمنية وقتلوا كثيرًا من الثوّار ومن ساندهم، فيما أصبح يُعرف باسم "المجازر الحميدية".
أما الحركة الصهيونية، فنشأت بقيادة ثيودور هرتزل عام 1897، ودعت إلى إنشاء وطن قومي ليهود العالم في فلسطين الخاضعة للدولة العثمانية وتشجيع اليهود على الهجرة إليها، فأصدر السلطان عبد الحميد فرمانًا يمنع هجرة اليهود إلى الأراضي المقدسة، لكنه اضطر في نهاية المطاف إلى التهاون معها تحت ضغط الدول الأوروبية، وخاصةً بريطانيا.

المحطة الحادية والعشرون
الحرب العالمية الاولى

أسست ألمانيا مكتب استخبارات الشرق الذي تولى متابعة أخبار مناطق بلاد فارس وأفغانستان، وبتحالفها مع قوات المحور سعت الامبراطورية العثمانية إلى فرض سيطرتها على مناطق بلاد فارس وطاجكستان وصولاً إلى القارة الهندية.
في 13 نوفمبر 1918 أدى احتلال اسطنبول إلى إشعال حرب تحرير تركيا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، وفي 1923 م تمت معاهدة لوزان التي قضت باستقلال تركيا وتوزيع إرث الامبراطورية العثمانية الذي كانت قد تم الاتفاق عليه سرياً منذ عام 1915 عبر اتفاقية سايكس بيكو والتي أفضت إلى حقبة الاستعمار الأوروبي الحديث في الشرق الأوسط.
انطلقت شرارة الحرب الأولى في 28 يونيو عام 1914م عندما اغتال أحد القوميين الصرب، الأرشيدوق فرانز فرديناند وليّ عهد النمساو المجر في مدينة سراييڤو في البوسنة الخاضعة للنمسا. فاعتبرت الإمبراطورية النمساوية المجرية صربيا مسؤولة عن هذا الاغتيال، فتدخلت روسيا لدعمها مدعومة من فرنسا وتحركت ألمانيا ضدهما، وما لبثت أن دخلت بريطانيا الحرب بعد ذلك بفترة قليلة، ومن ثم تشكلت الأحلاف، فدخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب معسكر دول المحور، أي ألمانيا والنمسا وبلغاريا. وفي 10 أغسطس سنة 1914م، دخلت الدولة العثمانية الحرب بشكل فعليّ، بعد أن سمحت لبارجتين ألمانيتين كانتا تطوفان البحر المتوسط، بعبور مضيق الدردنيل نحو البحر الأسود هربًا من مطاردة السفن البريطانية. وأعلن الصدر الأعظم إلغاء الامتيارات الأجنبية، ملبيًا بذلك إحدى المطالب الرئيسية للقوميين الأتراك، ثم أمر بإغلاق المضائق بوجه الملاحة التجارية، كما ألغى مكاتب البريد الأجنبية وجميع السلطات القضائية غير العثمانية. بعثت الانتصارات الألمانية الخاطفة على الجبهة الروسية الأمل في نفوس الإتحاديين، وأملوا استعادة الأراضي العثمانية المفقودة.
بيد ان روسيا أعلنت الحرب على الدولة العثمانية بالتحالف مع بريطانيا وفرنسا. وخاضت الجيوش العثمانية الحرب على جبهات متعددة ومُنيت بهزائم فادحة ، فنزل البريطانيون في الفاو على الخليج العربي واستولوا على العراق، كما حققوا انتصارات في اليمن وشمالي افريقيا وبددوا الاسطول العثماني في البحر الاحمر. وقام أسطول الحلفاء بمهاجمة مضيق الدردنيل في خطوة للاستيلاء على الآستانة وإخراج الدولة العثمانية من الحرب، وإمداد الجبهة الروسية،  لكن هذا الأسطول الضخم عجز عن اجتياز المضيق وهزم العثمانيون طاقمه هزيمة كبيرة في معركة بريّة، كانت النجاح الوحيد لهم في مقابل سلسلة من الاخفاقات، وبرز في هذه المعركة القائد مصطفى كمال.
بعد فشل الحملة العثمانية على مصر، جرت اتصالات سريّة بين البريطانيين في مصر والشريف حسين بن علي والي الحجاز، وبعض الزعماء العرب، وتمّ الاتفاق على أن يثور العرب على الأتراك وينضموا إلى الحلفاء مقابل وعد من هؤلاء بمنح العرب الاستقلال وإعادة الخلافة إليهم. وتنفيذًا لهذا الاتفاق أعلن الشريف حسين في يونيو سنة 1916م الثورة العربية على الأتراك، فأخرجهم من الحجاز وأرسل قوّاته شمالاً بقيادة ولديه فيصل وعبد الله لتشارك القوات البريطانية في السيطرة على بلاد الشام.
وفي غضون ذلك سُحقت المقاومة البلغارية في البلقان، مما أرغم حكومة صوفيا على طلب الهدنة، فأدرك الباب العالي خطورة الموقف، لأن الحرب أضحت قريبة من الأراضي التركية، ويمكن للعدو أن يتغلغل بحريّة في تراقيا الشرقية ويزحف حتى أبواب الآستانة، فأبرم العثمانيون معاهدة "مودروس" مع الحلفاء، خرجوا بموجبها من الحرب.
وبعد مرور شهر على توقيع هدنة مودروس، دخلت البحرية البريطانية والفرنسية والإيطالية ثم الأمريكية إلى القرن الذهبي، وأنزلت قواتها في الآستانة التي حوّلتها إلى قاعدة لنشاط الحلفاء في المنطقة كلها.
سيطر الحلفاء على موانئ البحر الأسود كلها، واقتسموا الأراضي التركية، فاحتل الفرنسيون مرسين وأضنة، والإيطاليون أنطاكية وكوشا داسي وقونية، واحتل اليونانيون القسم الغربي من الأناضول، بالإضافة إلى تراقيا.
رفض الأتراك الخضوع للاحتلال والقبول بمشاريعه، فقامت ثورة وطنية في جميع أنحاء البلاد وتمكّن مصطفى كمال بعد جهود مضنية واصطدامات شديدة مع اليونانيين، من الانتصارواستعادة كامل الأراضي التي احتلوها، وفرض على الحلفاء توقيع هدنة جديدة اعترفت فيها اليونان بانتصارات تركيا، فأضحى مصطفى كمال بطلاً قوميًا، وبرز في الواجهة السياسية وتنازل السلطان عن العرش واعتزل الحياة السياسية.
بعد أن أصبح مصطفى كمال سيد الموقف، وقّع معاهدة لوزان مع الحلفاء عام 1923 التي تنازل بمقتضاها عن باقي الأراضي العثمانية غير التركية، وجرّد السلطان من السلطة الزمنية ثم ألغى الخلافة سنة 1924 وطرد عبد المجيد من البلاد، وبهذا سقطت الدولة العثمانية فعليًا بعد أن استمرت لما يقرب من 600 سنة. وانهارت معها الخلافة الإسلامية بعد أن استمرت ما يزيد عن ألف سنة.
كما أن هذه المعاهدة قادت الى اعتراف دولي بجمهورية تركيا التي حلّت محل الدولة العثمانية، وأدّت الى تسوية التراس الشرقي وهو الجزء الاوروبي من تركيا، وحدّدت حدد عدة بلدان منها اليونان وتركيا وبلغاريا والمشرق العربي. وأعيد ترسيم الحدود مع سوريا فضمّت تركيا أقاليم سوريا الشمالية وفيها مرسين وطرسوس(طرطوس) وكيليكية وأضنة وعنتاب وكلس ومرعش واورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر.
شهدت المنطقة خمس حملات شنتها قوات الحلفاء على أراضي الامبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الثانية هي حملة سيناء وفلسطين وحملة بلاد الرافدين وحملة القوقاز وحملة بلاد فارس وحملة جاليبولي، كما شهدت حملات وعمليات عسكرية ثانوية في عدن والأجزاء الجنوبية من الأراضي العربية.
التف العرب حول الشريف الحسين بن علي شريف مكة الذي تراوده آمال في إنشاء دولة عربية كبرى. ودخلت بريطانية في مفاوضات سرية معه أوضح فيها الشريف ما يشترطه العرب لدخول الحرب إلى جانب بريطانيا وتتلخص في استقلال البلدان العربية القائمة على الساحل الشرقي لللبحر الأبيض المتوسط وإقامة دولة عربية كبرى تشمل مختلف أرجاء الوطن العربي باستثناء مصر والشمال الإفريقي وعلى الرغم من الاختلاف مع مكماهون حول حدود الدولة العربية الموعودة دخل العرب الحرب إلى جانب بريطانيا.
بدأت الثورة العربية الكبرى في 10 يونيو 1916 بإعلان الشريف حسين الجهاد المقدس والثورة على العثمانيين بمساعدة ضابط الاستخبارات البريطانية توماس إدوارد لورنس، واستطاع السيطرة على الحجاز بمساعدة الإنجليز ثم تقدم ابنه فيصل بن حسين نحو الشام ووصل بمساعدة الإنجليز إلى دمشق حيث خرج العثمانيون منها وأعلن فيها قيام الحكومة العربية الموالية لوالده الذي كان قد أعلن نفسه ملكا على العرب غير أن الحلفاء لم يعترفوا به إلا ملكا على الحجاز وشرق الأردن.
وعلى الرغم من تعهدات بريطانيا للعرب بقيام دولة عربية كبرى فقد أجرت هذه الدولة مفاوضات واتفاقيات سرية مع فرنسا وروسيا تناولت اقتسام الأملاك العثمانية بما فيها البلاد العربية ثم انفردت بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سرية عرفت باتفاقية سايكس بيكو 1916 التي فضح أمرها بعد الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 وفي السنة نفسها غدرت بريطانيا بالعرب مرة أخرى واعدين زعماء الحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين من خلال ما عرف بوعد بلفور الصادر في 2 نوفمبر 1917.
أسفرت الحرب العالمية الأولى عن سقوط الإمبراطورية العثمانية عام 1341هـ-1924م وعن خسائر مادية وبشرية جسيمة وعن تراجع الدور الرائد لأوروبا في توجيه سياسة العالم. أما أهم نتيجة لهذه الحرب فقد تمثلت في قيام سلام منقوص يحتوي على جميع العناصر التي من شأنها إشعال الحرب العالمية الثانية عام 1939.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية المستفيدة الأولى على أساس أنها الدائنة الأولى لأوروبا قبل الحرب وخلالها. فقد جمعت الولايات المتحدة بعد الحرب نتيجة تسديد أوروبا لديونها 45% من احتياطي الذهب في العالم وأصبحت بذلك أول دائن في العالم.
في 28 يونيو 1919 وقع الألمان على معاهدة فرساي مع الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى بعد مفاوضات دامت ستة أشهر، وتم تعديل المعاهدة في 10 يناير 1920 لتتضمّن الاعتراف الألماني بمسؤولية الحرب  وتعويضها الأطراف المتضرّرة ماليًا.
وتمخّضت الاتفاقية عن تأسيس عصبة الأمم بدعم أميركي، التي يرجع الهدف إلى تأسيسها الحيلولة دون وقوع صراع مسلّح بين الدول كالذي حدث في الحرب العالمية الأولى ونزع الفتيل من الصراعات الدولية.
وافقت عصبة الامم على المطالب الاستعمارية لكل من بريطانيا وفرنسا وأقرت بشرعية انتدابها على دول المشرق.
بدأ التطبيق الفعلي لمضمون اتفاقية سايكس بيكو سنة 1918 والمعارك لم تنته بعد وذلك حين قسم الجنرال اللنبي قائد الجيوش الحليفة في الشرق المناطق العربية إلى ثلاث: واحدة بإدارة فرنسية (الساحل) وواحدة بإدارة عربية (الداخل) والأخيرة بإدارة بريطانية.
لكن التغطية الدولية لهذه الاتفاقية جاءت عبر مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919 فقد طرح المؤتمر مفهوما جديدا للاستعمار هو الانتداب الذي اقترحه الرئيس الأمريكي ويلسون ورئيس وزراء جنوب أفريقيا الجنرال سمطس وهو ينص على تولي دولة كبرى شئون الدولة التي لا عهد لها بالحكم والتي خضعت لفترة طويلة لإحدى الإمبراطوريات المتداعية كالدولة العثمانية فتساعدها الدولة المنتدبة حتى تصبح قادرة على إدارة شئونها بنفسها.
بيد ان المؤتمر السوري العام رفض اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور وأعلن قيام المملكة السورية ونصب الأمير فيصل ملكا عليها. فانعقد المجلس الأعلى للحلفاء في مدينة سان ريمو الإيطالية في أبريل 1920 وقرر ردا على المؤتمر السوري تطبيق اتفاقية سايكس بيكو التي تقضي بوضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب الإنجليزي وتعهد مؤتمر سان ريمو كذلك بالعمل على تطبيق وعد بلفور.
كما كانت بريطانيا مرتبطة مع الإمارات العربية الواقعة على سواحل الخليج العربي وعمان بمعاهدات حماية. كذلك فرضت بريطانيا حمايتها على مصر والسودان وسيطرت إيطاليا على ليبيا واحتلت فرنسا ما تبقى من المغربي العربي وكرست سيطرتها على كل من تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا والصومال.
كانت آثار الحرب الاولى أعمق على الدول التي كانت تحت الحكم العثماني، بعد أن تحقق ما كانت تصبو إليه الدول الأوروبية بتقسيم الغنيمة في تلك البلاد والسيطرة على مقدراتها وثرواتها وخيراتها وشعوبها وحكامها.
تم تقسيم المنطقة التي ظهر فيها اسم الهلال الخصيب، بموجب اتفاقية سايكس بيكو، فحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فأمتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعا بالإتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
وعقدت في 1923 معاهدة لوزان لتعديل الحدود التي أقرت في معاهدة سيفر. تم بموجبها التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية إضافة إلى بعض المناطق التي كانت قد أعطيت لليونان في المعاهدة السابقة.
قسمت هذه الاتفاقية وما تبعها سوريا الكبرى أو المشرق العربي إلى دول وكيانات سياسية كرست الحدود المرسومة بموجب هذه الاتفاقية والاتفاقيات الناجمة عنها وهي:
العراق، استقل عام 1932
منطقة الانتداب الفرنسي على سوريا:
سوريا، استقلت فعلياً عام 1946، لبنان، استقل ككيان مستقل عام 1943. أما الأقاليم السورية الشمالية فقد ضمت لتركيا
منطقة الانتداب البريطاني على فلسطين: الأردن، استقل ككيان مستقل عام 1946 (كانت منطقة حكم ذاتي منذ 1922) -  فلسطين، انتهى مفعول صك انتداب عصبة الأمم على فلسطين يوم 14 أيار 1948 وجلى البريطانيون عنها. لكن في اليوم التالي أعلن قيام إسرائيل فوق أجزاء كبيرة من حدود الانتداب البريطاني على فلسطين وبدأ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث في 1949 (إثر حرب 1948 وبعد إلغاء الانتداب البريطاني) قسمت فلسطين إلى ثلاث وحدات سياسية: إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة.

يتبع .......
سامي الشرقاوي


Enhanced by Zemanta

03‏/06‏/2011

نصرالله في خطابه الاخير: لم ينجح أحد!


يكاد يكون خطاب السيد نصرالله الاخير يتمتّع بقدر كبير من استراتيجية سياسية غير مباشرة تحتمل تفسيرات مختلفة لسياسة حزب الله المستقبلية في لبنان، ويجوز ان يكون في نفس الوقت يتضمّن تلميحات عن سياسة ايرانية دفاعية او هجومية أو "تصالحية" في المنطقة العربية بدأ من لبنان مرورا بفلسطين المحتلة وسوريا لتشمل ايضا المملكة العربية السعودية.
فبعد أن اسهب السيد حسن نصرالله بذكر محاسن نظام الحكم في ايران في ظل ولاية الفقيه، وشرح بالتفصيل كيف يتم الحكم هناك، وكيف يكون الفصل بين السلطات، وبعد أن نوّه بالانتخابات الحرّة التي تجري دائما ويفوز فيها من يفوز بأكثرية "شعبية ساحقة"، وكيف ان الامام الخميني وضع نظاما دستوريا لا يستطيع الغرب اختراقه كما يحصل في باقي الدول، اقترح زعيم حزب الله أن يأخذ السياسيون في لبنان نفسا عميقا، ويجتمعون معا في مجلس النواب او الحكومة او حول طاولة الحوار ليتناقشوا في كيفية تطوير نظام الحكم في لبنان.
ثم اعترف نصرالله ان ما يجري من احداث في المنطقة العربية، والتي بدأت في السودان وقسّمته، وما يجري حاليا من محاولات لتقسيم اليمن وتقسيم العراق، هي محاولات خطيرة لخلق شرق أوسط جديد ترعاه وتشرف عليه الولايات المتحدة الاميركية وقال ان سوريا ليست بمنأى عن هذا التقسيم، واذا ما حصل فسوف يجري تقسيم السعودية ايضا.
وقال نصرالله ان لبنان بحاجة الى توافق وتلاقي واجماع، وليس الى غلبة فريق على آخر،لأنه لن تستطيع أي فئة ان تفرض سيطرتها على لبنان.
وأكّد فشل تجارب امن الميليشيات والادارات المحلية والكانتونات وبات الامن الذاتي لأي فريق عاجزا ومأزوما.
وفشل دستور ما قبل الطائف لأنه جاء نتيجة تسوية.
وفشل دستور الطائف لأنه جاء أيضا نتيجة تسوية.
وفشل اعتماد الآلات الطبيعية لتعديل الدساتير.
وفشل التوافق.
وفشلت الغلبة لفريق على فريق آخر.
وفشلت حكومات الاكثرية السابقة.
وفشل تأليف حكومة الاكثرية الحالية.
وفشل رئيس الحكومة السابق.
وفشل رئيس الحكومة المكلف.
وفشلت القيادات السابقة والحالية بتحمل مسؤلياتها.
وفشل التعاطي مع الامور في لبنان بمعزل عما يجري في المنطقة.
وفشل التعاطي مع الامور في لبنان وفق ما يجري في المنطقة.
وفشلت الى الآن مواجهة المؤامرة لتقسيم المنطقة.
وفشل التقليل من أهمية ما يجري في سوريا من احداث بغية تقسيمها.
وفشل العرب في استرداد فلسطين المغتصبة عام 48.
وفشل العرب مرة اخرى باسترداد اراضي 67 المحتلة بالقوة.
وبالنتيجة لم ينجح احد لا في لبنان ولا في فلسطين ولا في بلدان العرب اجمعين.
فقط نجحت ثورة الامام الخميني في ايران.
ونجح نظام حكم ولاية الفقيه.
ونجح النظام الايراني في معالجة الازمات والصمود أمام التحديات.
ونجح الشعب الايراني بالاستفتاء على هوية النظام بأكثرية ساحقة.
لم يأت السيد نصرالله على ذكر المعارضة في ايران ولا أشار الى قمعها من قبل السلطات ولا الى كيفية تصنيفها. ولكنه أكّد أن الديمقراطية فشلت في دول العالم كافة ونجحت في ايران!
صدق السيد نصرالله عندما قال ان شباب وشابات ايران يذهبون للمشاركة في المباريات العالمية في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب ويحصلون على اعلى الدرجات. بيد ان هذا حاصل في ايران منذ تاريخ الحضارة في ايران وليس فقط في زمن ولاية الفقيه.
كما انه منذ التاريخ برع العراقيون والمصريون والسوريون واللبنانيون وعرب بلاد الاندلس وشبه الجزيرة العربية بكافة العلوم وأوجدوا معادلات واختراعات علمية ما زالت تتبع وتدرّس الى الآن في كافة المدارس والجامعات العالمية. غير ان معظم هؤلاء العلماء بما فيهم العلماء في ايران، يعيشون قهرا من قبل انظمة بلادهم، أو حجرا أقامه الاستعمار الغربي عليهم ومنهم من فقد ومنهم من اغتيل ومنهم من هرب وتاه في بلاد الله الواسعة.
ولكن لماذا كل هذا الكلام؟
الحقيقة ان هناك عدّة تفسيرات، أهمّها أن زعيم حزب الله ربما يستبق الامور ويستخلص نتائج ويقترح معالجات أساسها الوفاق الوطني ما دام ليس هناك غلبة لفريق، لأن أي غلبة لفريق برأيه ستتقوقع وتبقى عاجزة ومأزومة. ويكاد السامع لا يستطيع الا ان يلاحظ ان نصر الله يقصد بكلامه حزب الله، لسبب بسيط انه هو الفريق الاقوى على الاقل ميدانيا وعسكريا في لبنان.
فلماذا هذا الكلام الآن؟
هذا السؤال يقودنا الى التفسير الثاني وهو شعور السيد نصر الله ان النظام السوري ربما بات بحكم المنتهي، وهو يريد ان يحفظ خط الرجعة في لبنان ويتصالح مع خصومه، بطرح تطوير النظام بنقاش دستوري مع لجنة منبثقة من مجلس النواب او الوزراء او حتى حول طاولة الحوار بعد احيائها. والسيد نصر الله يعرف تماما ان هذا الامر شرحه يطول وربما لذلك يطرحه لكسب مزيدا من الوقت حتى تتّضح أكثر معالم المرحلة الجديدة القادمة.
ولكن لماذا اسهب السيد نصرالله بشرح نظام ولاية الفقيه "الديمقراطي"؟
هذا السؤال يحتمل ثلاثة تفسيرات:
التفسير الأول ان زعيم حزب الله ربما يريد ان يشير الى أنّ النظام الايراني بعيد كل البعد عن الاحداث الجارية على الساحة العربية، فهو محصّن شعبيا وسياسيا وعسكريا ودينيا، ولذلك فمن غير المتوقع ان يجري عليه ما يجري على انظمة دول أخرى.
والثاني ان السيد نصر الله ربما يريد ان يقول ان النظام الايراني قادر على صدّ المؤامرات الاميركية والغربية، وردّها على المخطّطين لها، لذلك فهو يلمّح الى احتمال تقسيم السعودية وغيرها من الدول الحليفة للسياسية الاميركية.
والثالث يحتمل الاشارة الى ان النظام في ايران نظام ديمقراطي مرن وسلس يستأنس بتوجيهات الولي الفقيه، الذي ربما ينصح بإعادة النظر بسياسة ايران الخارجية، والعمل على تكريس هدنة مؤقّتة مع العالم العربي تحديدا والعالم الغربي عموما.

في كل الاحوال، يبقى الواقع الاهم، وهو ان حزب الله بات في موقع لا يحسد عليه. فبعد أن عمل الى خلق حالة نوعية في لبنان، شلّت الحركة السياسية والاقتصادية العامة. فهو غلب خصما ولم يهزمه، ودعم حليفا لم ينصره، وجذب فريقا لم ينفعه، وبات النظام السوري عبئا عليه، وفرّ منه الصديق القطري الذي كان يدعمه بالمال والاعلام لتجميل صورته في الداخل و الخارج.
وتكالب اصدقاؤه في الاكثرية الجديدة على المناصب، وفلت بعض المحسوبين عليه من الادبيات السياسية واطلقوا العنان لقاموس الرذالات اللغوية ضد أخصامهم. وبلغ حدّ التهوّر الكلامي عند بعضهم الى التهديد باحراق المنطقة من بحرها الى خليجها. وكلّ هؤلاء صنعهم حزب الله أو حماهم أو أفسح لهم مجال الكلام إمّا لغاية في نفسه وإمّا اكراما لسوريا وإما بالتنسيق مع ايران. لكن في المحصلة باتت الاوراق تتساقط من يد الحزب القوي، الذي ربما استنتج زعيمه ان ما زرعه من أخطاء وسط الفوضى المنظمة بات يحصده فشلا على كل المستويات.
لذلك قد يكون فشل حزب الله في لبنان يكرّس النتيجة النهائية التي أعلنها السيد حسن نصرالله في خطابه الاخير وإن بصورة غير مباشرة: لم ينجح أحد.
ويطرح السؤال الاخير نفسه.... ماذا بعد؟
يجوز أن السيد حسن قد أجاب على هذا السؤال، ويبقى ان يتضّح كيف سيتعامل خصومه في لبنان مع طرحه مبدأ التصالح ولم الشمل، وكيف سيحلل خصومه في المعسكر الغربي خطابه الجديد، والاهم ماذا سيكون رد فعل القيادة السورية على كلامه.
غير انه يجوز ان يكون لكلام السيد نصرالله تكملة، ولكن هذه المرّة من ايران.

سامي الشرقاوي

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات