16‏/02‏/2011

سياسة اميركا المرتبكة تزعزع استقرارالشرق الاوسط


ثار شعبا تونس ومصر ضد بن علي ومبارك، أشد حلفاء أميركا في شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الاوسط، فكانت الادارة الاميركية أول من طالب الرئيسين بالاستجابة لصوت الشعب والتنحي!
لماذا استغنت الولايات المتحدة عن حليفيها اللدودين بهذه السرعة المذهلة؟ لا يمكن معرفة الاسباب الحقيقية لهذا التصرف، فالولايات المتحدة الاميركية وتحديدا منذ سنة 1947مارست في العالم بشكل عام وفي منطقة الشرق الاوسط  بشكل خاص، سياسات خاطئة ومربكة وعجيبة وخادعة وغير منضبطة وقصيرة النظر وساذجة وغيرصادقة وغيرثابتة وعبثية. وبغض النظر عن التعريف الذي يمكن ان تتخيّله لكل واحدة من هذه المصطلحات، فان كل مصطلح منها يؤدي الى نتيجة واحدة: الفوضى المطلقة من أجل عيون اسرائيل. لماذا؟
بعد الحرب العالمية الثانية، نجحت بريطانية بإصدار قرار أممي عام 1947 نتج عنه استبدال دولة فلسطين بكاملها ليحل مكانها دولة يهودية سمّيت اسرائيل. وعلى أثر هذا القرار سهّلت بريطانيا بصفتها دولة انتداب في الشرق الاوسط، لمجموعات يهودية القدوم من مختلف انحاء العالم لاقامة وطنهم اليهودي في فلسطين. وطردت مئات آلاف الفلسطينيين من منازلهم، مما اضطرهم اللجوء لدول عربية مجاورة. وسارعت أميركا للاعتراف باسرائيل ولم تبد اي تحفظ على ما حل بدولة فلسطين ولا على ما كان يحل بالشعب الفلسطيني المطرود من ارضه.
ولتصحيح خطأها، حاولت كسب صداقة الدول العربية بعدم المشاركة بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وسعت لاصدار قرار أممي لوقف العدوان.
أجبرت الهزيمة النكراء التي الحقتها مصر عبد الناصر ببريطانيا وفرنسا، على سحب جيوشهم من الدول العربية بعد حقبة طويلة من الاستعمار. بينما حظت اسرائيل بعطف اميركي استثنائي، حقق اطماعها باستئثار قدر كبير من الاموال والمساعدات الاميركية لتقوية جيشها عددا وعتادا.
كسبت الولايات المتحدة ود الدول العربية المصدرة للنفط بعد أن عرضت شراء كميات ضخمة من نتاج نفطهم. بالطبع كانت الاسعار عبارة عن نوع من التبادل التجاري تحصل بموجبه اميركا على النفط مقابل دعمها تلك الدول لنيل استقلالها، ثم دعمها سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
ولأن كل لفتة أميركية باتجاه الدول العربية يقابلها تعويض ما على اسرائيل، حصلت اسرائيل عام 1966 على اول سرب من الطائرات الاميركية المقاتلة، وبذلك انتهكت الولايات المتحدة القرار الاممي عام 1956 والذي يقضي بعدم بيع الاسلحة للدولة اليهودية الجديدة!
هذا القرار اعاد اميركا مع الدول العربية الى المربع الاول، لكن دعمها المتواصل للملكة السعودية في نزاعها مع اليمن، جعلها تعتقد انها تستطيع كسب ود باقي الدول العربية.
 الا ان عبد الناصر كان له وجهة نظر أخرى، إذ قرر دعم اليمن عسكريا ضد السعودية. ولم يمض وقت طويل حتى تغير الوضع السياسي في السعودية، بخلع الملك سعود وتنصيب اخاه الملك فيصل مكانه. ولم يكن فيصل يكن الولاء الكامل لأميركا، الا انه حافظ على صداقتها والاعتماد عليها لتجهيز وتسليح جيشه. لم يوافق على سياسة اميركا في المنطقة وانتقدها بشدة لدعمها الاعمى لاسرائيل وتجاهلها المطلق للشعوب العربية وخصوصا الشعب الفلسطيني.
وكان لاسرائيل ايضا وجهة نظر تختلف عن وجهة نظر الاميركان، فشنت عام 1967 حربا خاطفة ضد ثلاثة دول عربية مجتمعة، واستطاعت بسرعة مذهلة الاستيلاء على القدس وصحراء سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية وجبال الجولان. ثم صدر قرار اممي بالاجماع يطالب اسرائيل بالانسحاب الفوري من الاراضي التي احتلتها. رفضت اسرائيل وبقي هذا القرار قابعا في ادراج الامم المتحدة وما زال الى يومنا هذا. وقال أحد مستشاري الرئيس جونسون في احدى مذكراته الادارية لرئيسه ما معناه " السؤال الاهم هو هل نجبر اسرائيل على التراجع الى حدود 4 حزيران، اذا ما وافق العرب على سلام حقيقي وصادق مع اسرائيل".!
في عام 1973 شنت مصر ومعها سوريا حربا ضد اسرئيل لاسترجاع سيناء وهضبة الجولان، وبدعم غير متوقع أوقف الملك فيصل ضخ النفط وشحنات التصدير الى اوروبا واميركا وقام بسحب جميع عروض البترول السعودي نهائيا من الاسواق العالمية. أدى هذا العمل الى ازمة طاقة كبرى عام 1973 وساعد بانهاء الحرب لصالح العرب. ولم يكتف الملك فيصل بذلك، بل خصص نسبة كبيرة من عائدات النفط لمساعدة مصر وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. ويسود اعتقاد عام في الدول العربية والاسلامية ان قطع الملك فيصل للبترول كان السبب وراء اغتياله، من خلال مؤامرة نفّذها الاميركيون حيث ان قاتله كان قد وصل حديثا من الولايات المتحدة.
 وفي عام 1976 اصدرت الامم المتحدة قرارا يتهم اسرئيل بجرائم حرب في فلسطين المحتلة. وكانت الولايات المتحدة الاميركية الدولة الوحيدة التي اعترضت على هذا القرار!
أقنعت الولايات المتحدة عام 1978 الرئيس السادات، بالدخول في مفاوضات سلام مع اسرائيل، مما أثار نقمة سوريا والفلسطينيين وغيرهم من الدول والمنظمات العربية والاسلامية الرافضة للسياسة الاميركية، ولكنه قام بزيارة شهيرة الى القدس، وتوّجت تلك المفاوضات بتوقيعه اتفاقية كامب دافيد الشهيرة برعاية اميركية. وقامت 18 دولة عربية بفرض عقوبات على مصر.
لم تستطع اميركا حماية رجلها القوي شاه ايران عندما قام الامام الخميني بثورته الشعبية ضده، التي ادت الى طرده ونفيه، واعلان جمهورية اسلامية وشعارها "اميركا الشيطان الاكبر".
وبعد اغتيال الرئيس السادات عام 1981 في مصر تم تنصيب نائبه حسني مبارك رئيسا للبلاد، بعد ان تعهد لاميركا الاستمرار بسياسة السادات وعدم الافراط بمعاهدة السلام مع اسرائيل.
في عام 1982 غزت اسرائيل لبنان للقضاء على البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وانشأت منطقة آمنة في الجنوب اللبناني على امتداد 25 ميلا من الحدود الاسرائيلية. وشاركت اميركا وبعض الدول الغربية بارسال قوات حفظ سلام الى لبنان لانهاء الحرب، بعد ان انسحب الجيش السوري الى شمالي لبنان مع ما تبقى من فلول جيش منظمة التحرير.
حصلت تطورات لم تكن في الحسبان، حيث اغتيل الرئيس اللبناني المنتخب، وشنت المقاومة اللبنانية هجوما انتحاريا بواسطة شاحنة مليئة بالمتفجرات على القوات الاميركية فقتلت 241 جنديا اميركيا في اقل من خمسة دقائق. سارع الجيش الاميركي بالانسحاب من لبنان.
عاد حافظ الاسد الى لبنان أقوى هذه المرة، وكان محصّنا باتفاق سري مع اميركا توكله بموجبه السيطرة على لبنان شرط ان يكمل القضاء على الآلة العسكرية الفلسطينية، وقد قام فعلا بالقضاء عليها واجبار باسر عرفات وظباطه وما تبقى من جنود لديهم للرحيل بحرا الى تونس.
في عام 1990 توصل العرب الى اتفاق في مدينة الطائف السعودية، بين اللبنانيين ينهي الحرب الاهلية، وتقرر تأليف حكومة جديدة برئاسة رفيق الحريري الذي فرضته السعودية وقبلته سوريا على مضض، كما قبلت السعودية على مضض بقاء الجيش السوري في لبنان، لتأمين تنفيذ الاتفاق على الارض. الغريب في الامر ان الولايات المتحدة لم تعترض على بقاء الجيش السوري في لبنان، وطلبت من الرئيس الاسد منع اي هجمات عسكرية من لبنان على اسرائيل.

وافق ياسر عرفات الذي بات يعتبر الرئيس السوري عدّوه اللدود، على توقيع معاهدة سلام مع اسرائيل برعاية اميركية عام 1991. وانسحبت اسرائيل بموجب هذا الاتفاق من الضفة الغربية وقطاع غزة لصالح الفلسطينيين، وتعهدت الولايات المتحدة بالعمل على اقامة دولة فلسطينية مستقلة قريبا. غير ان "قريبا" لم يأت الى الآن.
بهذا الاتفاق أكملت الولايات المتحدة طوق أمان لاسرائيل مع حدوده الجنوبية والجنوبية الشرقية والجنوبية الغربية بدخول مصر والفلسطينيين في سلام مع اسرائيل. أو هكذا ظنت.
في عام 1991 فاجأ صدام حسين العالم بغزوه للكويت، مما حمل الولايات المتحدة على التدخل العسكري المباشر، فقادت لفيفا من جيوش الحلفاء الغربيين والعرب، وشنت حربا داخل العراق واجبرت صدام حسين على الانسحاب من الكويت، الا انها لم تكمل الطريق الى بغداد وأعلنت فجأة انتهاء العمليات العسكرية بعد اعلان النصر بتحرير الكويت.
لم تكد الجيوش الاجنبية تخلي ارض العراق حتى شن جيش صدام هجمات فتّاكة ضد الاكراد في الشمال والشيعة في الجنوب. والغريب في الامر ان المقاومة الشيعية في العراق أطلقت " صوت العراق الحر" الذي كان يبث من مركز تابع للمخابرات الاميركية في المملكة السعودية.
والاغرب ان صدام حسين شن حربه التي دامت 10 سنوات ضد ايران، كان خلالها يتلقى دعما ماديا واقتصاديا وتقنيا ومخابراتيا متواصلا من الولايات المتحدة الاميركية، كما كان ظباط جيشه يتلقون تدريبات خاصة في اميركا، وكانت فرقا من الجيش الاميركي تساند على فترات الجيش العراقي في مهمات عسكرية ضد ايران.
وفي عام 1994 حذا ملك الاردن حسين حذو عرفات والسادات، بتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل.
واستطاعت سوريا فيما بعد تقوية حركة حماس سياسيا وعسكريا على حركة فتح مما جعلها تسيطر على قطاع غزة بالكامل. وبذلك انقسم الفلسطينيون الى قسمين مع وضد الولايات المتحدة الاميركية، وصار السلام الفلسطيني الاسرائيلي على شفير خطر الالغاء. الا ان هذا الامر لم يفد سوريا وحلفائها بقدر ما افاد اسرائيل والولايات المتحدة.
وارتباك السياسة الاميركية في أفغانستان، ساعدت حركة طالبان على التحكم في البلاد. وفي الوقت الذي قررت فيه اميركا التدخل لمساعدة حليفها احمد شاه مسعود، الا انه اغتيل قبل يومين من تنفيذ القاعدة عملية 11 ايلول 2001 على الارض الاميركية.
 في اليوم الاول من تولي بوش رئاسة الولايات المتحدة ودخوله الى البيت الابيض، شنت الطائرات الاميركية هجومين على العراق دون سابق انذار ولاسباب غير معروفة. ثم غزا العراق لاسباب ملفقة مع بعض حلفائه من الدول الاوروبية، واستطاع ان يقصي صدام عن الحكم، ويأتي بمعارضيه وجلّهم من الشيعة المؤييدين لايران لمسك زمام الامور في العراق. ولما انتبه لهذا الخطأ الاستراتيجي، ساعد زعيم الاقلية الكردية ليصبح رئيس جمهورية العراق.
بالطبع استشاط سنّة العراق غضبا، وأعلنوا الحرب على النظام العراقي الجديد وعلى الولايات المتحدة، يساندهم في ذلك الغالبية السنّية في شبه الجزية العربية التي أقلقها سياسة الاحتلال الاميركي الغير موزونة في العراق. وما يثير العجب فعلا أن الادارة الاميركية استطاعت ايضا وبرغم كل مساعدتها لشيعة العراق، ان تكسب عداء فريق شيعي قوي بقيادة مقتدى الصدر.
بطبيعة الحال استطاعت ايران الاستفادة لأقصى حد من سياسة اميركا الهزيلة في العراق والمنطقة، لتكسب دورا مميزا. فانتهزت هذه الفرصة النادرة لتحكم سيطرتها السياسية على العراق، وتصادق تركيا، وتحالف سوريا، وتضخ مساعدات غير مسبوقة الى حماس وحزب  الله في لبنان لتقوية آلته العسكرية وبنيته المالية.
هذه الخطوات الهائلة التي اتخذتها ايران بسرعة فائقة، اربكت اميركا واسرائيل على حد سواء، فقررا لجمها بشن حرب على حزب الله في لبنان عام 2006 للقضاء على بنيته العسكرية وتقليص حجمه السياسي، غير ان حزب الله اذهل العالم بكسب هذه الحرب عسكريا بعدم تمكين اسرائيل من تحقيق اهدافها واجبارها على وقف النار والانسحاب لاحقا من الاراضي اللبنانية.
لكن اميركا استطاعت تحقيق بعض المكاسب السياسية، بأن عملت على اصدار قرار اممي بارسال قوات تابعة للامم المتحدة الى الجنوب اللبناني لانشاء منطقة عازلة، تمنع اي تواجد عسكري لحزب الله يشكل خطرا على امن اسرائيل.
السياسة المرتبكة للولايات المتحدة في المنطقة، اربكت أيضا رئيسها الجديد باراك اوباما نفسه.
ونجد اليوم ان الانظمة التي تعد حليفة او صديقة للولايات المتحدة تسقط واحدة تلو الاخرى، بواسطة حركات مقاومة شعبية سلمية. والمثير في الامر ان هذه الحركات السلمية للشعوب، ابتدعها الاميركيون، لقلب الانظمة الغير صديقة، وحاولت تطبيقها في سوريا وايران، ولكنها لم تنجح هناك، مع انها نجحت مع شعوب اخرى قلبت انظمت بلادها الحليفة للغرب.
ماذا بعد كل هذا؟ يقول البعض ان أوباما وادارته لا يملكون الجرأة الكافية لمواجهة التحديات المتسارعة في الشرق الاوسط.
هذا يمكن ان يكون صحيحا. ولكن أضيف انهم (الاميركان) لديهم حمل ثقيل قابع على رؤوسهم هو اسرائيل، التي لا تمنحهم حتى فرصة التفكير الصحيح.
لهذا السبب نرى السياسة الاميركية اتجاه الشرق الاوسط سياسة حيرة وارباك، لانها تربكهم وتحيّرهم هم أيضا.
الا انها لا تربك ولا تحيّر اسرائيل. ولا حتى بقدر بسيط.
لماذا ؟
تابعوني في سلسلة "ماضي، حاضر ومستقبل مهد الحضارات" وسنكتشف الاجابة معا.

سامي الشرقاوي
Enhanced by Zemanta

ليست هناك تعليقات:

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات