من جمال هذه الانتفاضة الشبابية المصرية ان كل نظام من الانظمة العالمية ينسبها اليه، ويتفاعل معها وكأنه هو المحرّك لهذه الثورة الشعبية او في ادنى الحدود الموحي والملهم لأبنائها.
والاجمل أن هؤلاء البراعم المصرية، تتصرف وكأن كل ما يقال في كواليس السياسة المحلية والاقليمية والعالمية، سرا او جهرا، لا يعنيها ولا يمت اليها بصلة.
كل ما يراد لهذه الثورة هو ان يكون لها نزعة دينية او عرقية او بلون سياسي معين، يسارا او يمينا او حتى وسطا، وهذا المراد لا يلقى (الى الآن) آذانا صاغية ولا يحوّل هؤلاء الشباب والصبايا عن مطلبهم الحقيقي، وقرارهم الاوحد الا وهو العيش الكريم في ظل دولة تؤمن لهم كل مقوّمات هذا العيش، وتحميهم من اللعنة المميتة التي اصابت كل دول منطقة الشرق الاوسط.
أهمية الثورة المصرية هي انها السبّاقة الى نشر ثقافة العيش الكريم، بدءا من أكبر دولة عربية في مشرق ومغرب هذه المنطقة.
واذا أمعنّا النظر في تاريخ مصر الصحيح، نرى انه برغم كل المآسي التي تعرّضت لها، وبرغم المستعمرين الذي توالوا على احتلالها واخضاعها، وبرغم الاصرار على كبت شعبها وذلّه وسجنه وقتله، الا ان مصر استطاعت في كل مرّة ان تنتفض وتقوم وتلد أبناء وبناتا، تفانوا في حبّها، وفدوها بأنفسهم وأرواحهم، وأبدعوا في كل الحقول السياسية والاجتماعية والعلمية والادبية والفنية.
أهرامات مصر لا تقتصر على الانشاءات الحجرية في صحراءها، برغم كل أهميتها وقيمتها التاريخية والعلمية.
أهرامات مصر هي أيضا هؤلاء الذين ولدوا فيها ورحلوا تاركين وراءهم علامات بارزة تكرّس خلودهم الفكري وخلود مصر الحضاري.
أهرامات مصر هم كل الوطنيين الذين انتفضوا وثاروا على الظلم والاستعمار. وضحّوا بأنفسهم وأموالهم وأبنائهم ليحموا مصر ويدافعوا عنها.
أهرامات مصر هم كل المفكّرين والادباء والكتّاب والشعراء والفنانين، الذين أسهموا من خلال أعمالهم برفع اسم مصر عاليا وجعلوه اسما مدويا على كل المنابر العالمية.
أهرامات مصر هم ابنائها المسلمين والاقباط الذين يثورون اليوم بوجه الظلم والطغيان.
ينسى أو يتناسى كل من يمثّل الانظمة المهترئة، في منطقة الشرق الاوسط ويدّعون الحماس لقلب نظام الحكم في مصر، ان انظمتهم ليست افضل من النظام الحالي الموجود في مصر، بل كل نظام منهم يفوق النظام المصري في الشمولية والدكتاتورية والسلطوية، ويبزّه في قمع الشعوب، ويكاد يتفوق عليه في الاحتيال والدجل والتكبر والتكابر والكذب.
شباب وبنات مصر أشعلوا ثورتهم ليس في مصر فقط، بل في كل بقعة من بقاع العالم التي تنزح تحت الظلم والاستعباد.
وهذا لا يستثني الدول الغربية، لأن انظمتهم وبرغم كل ألوانها البهية الجميلة، وبرغم كل العبارات التي تتغنى بالحرية والديمقراطية فإنها بالحقيقة أشنع من كل الانظمة المتواجدة في الشرق مجتمعة.
فبلاد الغرب لا تختلف بالقياس عن بلادنا، وولاتها لا يعلون أي درجة عن ولاتنا.
بل على العكس.. فإنه ليكاد أن يكون حكّامنا صادقين، أو صريحين أو واضحين فيما هم قائمين عليه وعلينا.
أمّا حكّام وحكومات وإدارات بلاد الغرب، فإنهّم الخبث عينه، والدّهاء نفسه، والكذب كلّه.
والحضارة والمدنية عندهم ليست الا ستارا مسدلا على الظلم الاجتماعي، والديمقراطية ليست الا حجابا يحجب التعسف السياسي، وقوانينهم "الحضارية" ليست الا "فرمانات ثعبانية" المقصود منها معاقبة ليس شعوبها فقط، بل أيضا شعوب العالم أجمعين، وتغريمها على مدار السنة.
وهم وضعوا في "شموسهم" الحضارية خيوطا شعاعية تحمل السمّ، وتهبط به على فكر الناس وعقولهم وقلوبهم، ليشلّ أفكارهم، ويذبل إحساسهم، ويقتل عواطفهم.
وجعلوا من التقنية مرآة كبيرة تأخذ من عالم حضاراتهم الجديدة كلّ الفساد وتعكسه بسرعة البرق، على كلّ شعوب العالم.
لذلك فإن شباب وبنات مصر خصوصا والامة العربية عموما، لا بد ان يعوا كل هذه الحقائق، ولا يتسرّعوا ويسارعوا بالتصفيق لكل من حكى وقال عن دعم ثورتهم ... لا شرقا ولا غربا.
فلا الاميركان والاوربيون يريدون لهم ان يكونوا اكبر من الحجم الذي خصّصوه لهم عندما صنّفوا العالم والشعوب مقامات ودرجات.
ولا زعماء العالم العربي والاسلامي يريدون لهؤلاء الشباب والبنات النجاح الا بقدر ما يكون نجاحهم، نجاحا واستمرارا لهم ولأنظمتهم.
ثورة مصر اليوم تنجح اذا استمر شباب وبنات مصر مصّرين على التغيير الحقيقي للآلة السياسية والاجتماعية المصرية، وليس فقط تغيير الاشخاص.
ثورة مصر تنجح فقط، اذا لم ينجرف شباب وبنات مصر وراء دواهي السياسية العالمية ويعلقون في شباكها الخبيثة.
ثورة مصر تنجح فقط، اذا لم يتحوّل شباب وبنات مصر الى ادوات تشفّي وانتقام.
ثورة مصر تنجح اذا استمرّت ثورة "فتاة" بريئة عذراء، محمية من كل دنس.
ثورة مصر تنجح وتنعكس على كل الوطن العربي، اذا ابتعدت عن كل نظام متواجد في هذا الوطن العربي.
ثورة مصر تنجح وتنعكس على كل الاوطان والشعوب، اذا نأت بنفسها عن انظمة العالم الغربي، واستطاعت ان تنفذ من شباكها.
ثورة مصر تنجح اذا كتب شبابها وبناتها مباديء واهداف هذه الثورة بكل حرية وبكل تجرّد، وحدّدوا لها أهدافا تعني فقط الشعب المصري ولا ترتبط بأي نظام اقليمي وعالمي الا بقدر ما يكون هذا النظام يراعي حقوق، وأمن، وسلامة، وخير، وازدهار، وقوة، وتقدّم مصر وشعبها وليس أية دولة أخرى.
قولوا لمن فوق طاقتي يحمّلنـي | ويحمل إسمي على بيارقه، وعنواني |
شرّعتم لشرور الارض تلسعني | بسياطٍ، جريده كفرٌ غُلِّف بإيمــانِ |
انتصروا وانتصرتم.. وفني من فني | وبقينا نحن من ويل الهزائم نعاني |
أسكن وطني ما بين رمشي وجفني | أرقيه من شر خلق الانس والجان |
كل صبحٍ أجددُّ فيه عشقاً يُبهجُني | أنا في عشقِ الوطن نقيٌّ، تقيّ متفاني |
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق