08‏/01‏/2012

استحضرتُ لبنان والمنطقة في ذكرى والدي




في ذكرى والدي اليوم، قعدت مع نفسي، واطلقت لذاكرتي العنان لتغوص في بحر الماضي القريب، و"تنبش" منه مشاهد من زمان وعز ايام زمان.

تخيلتني أجلس في مسبح " السان ميشال" الذي كان يقع في الموقع الوسط من منطقة الاوزاعي في ضاحية بيروت الجنوبية، بين مسابح " الكوت دازور" و " السان سيمون" من جهة، و " الريفييرا" و" الساندز" من جهة اخرى. وكان يمتاز عن المسابح الأخرى، بكثرة شاليهاته، وتنّوع رواده، من سوّاح عرب وأجانب، وأناس عاديين وأولاد بلد طيّبين، من كل مذهب ودين. الى كبار مشاهير السياسة والفن والمجتمع والصحافة واهل الفكر والادب من عرب ولبنانيين. وكلّهم مغبوطين، فرحانين، في إلفة ومحبة منسجمين ... رزق الله.
ضاحية بيروت الجنوبية!!!!!!!!!!
سواح عرب وأجانب!!!!!!!!!!!!!!
مغبوطين، فرحانين!!!!!!!!!!!
كم تغيّر المشهد........

وتستفيض بي الذاكرة فأقفز من السان ميشال صعودا الى عروس المصايف "عاليه"، واتجوّل في ساحتها وأتنقّل بين مقاهيها: السان جيمس، شاهين، طانيوس، عويس، الدفوني، لا شاندال، بيارو، الجبيلي والبيسين. يا ألله... أنا فعلا أعشق هذه العجقة في الساحة. الناس "تتمشّى" على "الصفّين"، بين بائعي الذرة المشوية والمسلوقة، و"كشكيْن" وسط الساحة تأكل عندهما أطيب سجق وبسترما، وبائعي الجوز المقشّر ومنهم واحد يبيعك الجوز في النهار، وتراه في الليل يغني في مربع "عويس"، ولكنه يقنعك بأنه ليس هو بل أخاه التوأم.

كان والدي يحرص على أن يبدأ "الصيفية" في مدينة "عاليه" حالما يطل شهر أيار... ولا يتركها الاّ عندما يبدأ سقوط المطر
كيف حال الجبل الآن؟؟؟

وكيف حال بيتنا الذي تتوسّط شرفته بركة ماء وتطلّ عليها شجرتا "كرز" يمكن أن تغويا آدم وحواء مرة أخرى.

كنا نتجوّل بحرية وأمان في المناطق اللبنانية جميعها من بيروت الى عاليه وبحمدون وصوفر وشتورا وزحلة وبعلبك ورياق وجديتا ثم نمرّ على حمّانا ونأكل من "كرزاتها"، ثم فالوغا ونشرب من فوّارها، ونعود الى بيروت.
وحين يحن بنا الشوق الى التاريخ، نذهب من بيروت الى صيدا وصور ونعرج على المدن والبلدات الحدودية مع فلسطين المحتلة من الخيام، كفركلا، العديسة، الطيبة، رب الثلاثين، مركبا، حولا، ميس الجبل، محيبيب ، بليدا وعيترون وحتى بنت جبيل وجزين ثم نعبر الى الشوف فنزور المختارة وبيت الدين ودير القمر.
وننزل نحو اقليم الخروب الى بعاصير وعانوت وشحيم وبرجا وننزل ساحلا الى الدامور مدينة الموز والتراث ومنها الى بيروت.
ولم نكن نفكّر ان هؤلاء الناس في كل المدن والقرى لهم مذهبا آخر او دينا مختلفا، ولم نكن نشاهد اية تجمعات عسكرية او مظاهر مسلحة، ولم يكن في الحسبان ان نتوقف على حاجز امني أو يسألنا شخص مدني من أين أتينا وما هو ديننا ومذهبنا، أو ماذا نريد من قدومنا الى مدينة من المدن أولماذا سلكنا طريق من الطرق.

والحال نفسه اذا اردنا التوجه شمالا الى بلاد جبال وسواحل المتن وكسروان، فنزور بكفيا وبولونيا وبيت مري وبرمانا والقليعات واللقلوق وافقا ومزرعة يشوع وحريصا وننزل الى انطلياس ثم مدينة جونية ومنها شمالا الى مدينة جبيل بيبلوس الحضارة ومدينة البترون وصولا الى طرابلس الفيحاء نأكل فيها اطيب الحلويات ونعرج الى بلاد عكار ومنها نعبر الى بلاد الارز ونكمل المشوار حتى نرجع الى بيروت.

كل الطرقات سالكة وآمنة، وكل الناس يرحبون ويهللون ويضيّفون ويكرمون ولا يسألون عن دين ومذهب ولا يعنيهم شأن سياسي ولا يخطر على بالهم محاظير أمنية.

كيف هي حال هذه الطرقات اليوم؟؟؟

ولمّا وصلنا الى بيروت، أخذني والدي من يدي وتجوّلنا في العاصمة "الفتاة".
آه يا بيروت (من لم يستبيحك بعد؟).

"نزلنا" الى مسبح "الاوندين" في "منطقة الزيتونة"، فوقه ملهى "الكيت كات"، كان يغني فيه كارم محمود "سمرا يا سمرا". وكان محمد جمال يغني في ملهى "منصور" يصدح "بمواويله" ويطلب "حبيبة بنت 16 سني".
ثم زرنا حانات وملاهي ومقاهي "الزيتونة" امتدادا الى ملهى "فونتانا" في منطقة عين المريسة في رأس بيروت.
تذكرت الآن ان ابن صاحب ملهى فونتانا هو اول شهيد لبناني قضى في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي لبيروت عام 1982.
لم يكن أحد يسأل اذا كان مسحيا او مسلما ... شيعيا او سنيا. كان بطلا من بيروت لبنان اسمه خالد علوان، واجه افرادا من جيش العدو الاسرائيلي وحده في بيروت بصدره وسلاحه البسيط، فاستشهد بعد أن أردى العديد منهم.

وفي اليوم التالي.. أخذني والدي الى مقهى الحاج داود "ليشرب" هناك "نفس" "أرجيله عجمي"، ويراقبني وأنا "أغطس" في مسبح "الجمل" الذي يقع مباشرة تحت مقهى "الحاج داود".

ولمّا أحسست بعد السباحة بنشاط متجدّد، توجّه بي الى شارع "اللنبي" وتوقّفنا لنأكل "لقمة فول" عند "الحاج السوسي"، وبعدها قصدنا مبنى "ستاركو" الذي وضع أوّل سلّم كهربائي في الشرق الاوسط، فتمشّينا في أسواقه (أول أسواق مغلقة في الشرق الاوسط التي تسمى اليوم "مول")، وقعدنا في مقاهيه.

ثم قصدنا ساحة البرج، وكاد قلبي يقفز فرحا لما وجدته من حركة دؤوبة منتظمة وسائقوا سيارات الأجرة الى المصايف ينادون (عاليه، بحمدون، صوفر).

"أمم وخلائق" كلْ غادي أو قادم، في حركة لا تكل ولا تمل، والكل في سعي الى عمل أو قادم من عمل، لا تشعر أنّ فيهم من يتسكّع أو يسير فقط لمضيعة وقت.

والأسواق على جوانب الساحة: "فتفرّجت" على سوق الذهب، وسوق مال القبّان، وسوق النورية، وسوق اللحامين، وسوق السمك، ودرج خان البيض وسوق الدجاج، وسوق الخضار، وبائعي الحلويات والقطائف، وأفران بيروت بخبزها وكعكها الزكي الرائحة.

كما رأيت صالات السينما مصفوفة من سينما الاوبرا ومسرحها العريق الى سينما كريستال بصالتها "المبردة" (والتكييف كان عبارة عن رش سطل ماء من حين لآخر بين ارجل الرواد "ليبوْردوا")، والريفولي والامبير، الى شهرزاد والأمير والكابيتول، وتوقّفنا هناك عند موقف العسيلي لسيارات الأجرة، وعجبت من نظام حركتها وادارتها.

تطلّعت من هناك الى مسرح "التياترو الكبير" وقال لي أبي أن "كوكب الشرق" أم كلثوم قد غنّت حفلة او حفلتين هناك.
ورأيت "قبالة " تمثال (رياض الصلح) هناك، قهوة "عسّور" وغالبا ما كانت تدعى قهوة "القزاز" أي الزجاج ، بسبب نوافذها الكبيرة المطلة على الشارع.

وصعدنا قليلا من مفرق مبنى "العازرية" فرايت أيضا "سيارات "السرفيس" مصفوفة بانتظام على جانبي الطريق، كل سائق بدوره ينتظر رزقه.

"فرقنا" يسارا باتجّاه ساحة الدبّاس وشارع بشارة الخوري، فرأيت مسرح شوشو الوطني، ثم أخذنا طريق ساحة الشهداء، من خلف سينما "روكسي" وتوقّفنا عند بائع "النيفا"، وتابعنا حتى سينما ديانا، و "قطعنا" الشارع لنشرب من "كازوز" جلّول، (وكنت أحبّه بمذاق "التمر هندي").

ثم تمشّينا في اسواق الطويلة وايّاس وسرسق، ورأيت الدليل الذي يقف على باب سوق الطويلة، الرجل الأمّي الذي يتكّلم كل لغات العالم، ويرشدك الى المحلات في الاسواق لقاء عمولة يأخذها من أصحاب تلك المحلات.

وبين سوقي اياس والطويلة، استرحنا عند بركة العنتبلي، وشربنا "كبّاية" من " الجلاّب" وأكلنا "كاسة" "قٌشطلية" عليها "جزرية" و"قطر" و "كم رشّة" من ماء زهر.

ثم عرّجنا على مقهى الاوتوماتيك ليشرب والدي "فنجان قهوة"، واستأذنته لأذهب مقابله الى محل "الجليلاتي" بعد أن اشتقت "لكاسة سحلب" من عنده عليها "رشّة" قرفة.

استقلينا "ترام بيروت" الى باب ادريس فمررنا بمقهى "سميراميس"، وبعدها مررنا بمنطقة الجامعة الاميريكية وصولاً الى آخر "الخط" عند "منارة" بيروت.
أين ترام بيروت اليوم؟ كان يلفّ بك المدينة من اقصاها الى اقصاها بخمسة قروش!

 بعدها قرّرنا الذهاب الى الروشة لنجلس في مقهى "الدولشي فيتا" يسامرنا شلّة معظمهم من الفنانين والصحافيين والكتّاب والنقّاد. ولم يكن الحديث الا عن الثقافة والفن والترح والمرح، لأنه لم يكن هناك أي هم سياسي أو أمني.
وكنّا نقضّي جزءا من الوقت لنقرر أين نتعشى ونسهر، ام "نقضيها" على البساطة برأي "الصبوحة"، "فننزل" الى ذلك المطعم البسيط على "الجناح"، حيث يخدمك "أبو وجيه" مع كل أفراد العائلة، ويقدّمون لك المازات الشهية و"يقلون" لك السردين "البزري" والسمك، واذا كان ابو وجيه قد "توفقّ" في رحلة الصيد يومها، يقدّم لك صحن عصافير على ذوقك، يأكله هو وتحاسب به أنت.

رحمك الله يا والدي،لم يعد شيئا مما ذكرته موجودا، وبقيت أنت في قلبي وخاطري.
رحمك الله يا والدي وأسعدك في جنان الخلد، فنحن هنا على الارض نعيش جحيما دائما
رحمك الله يا والدي، وأنت المحظوظ الذي لم يشهد ما حلّ بهذا العالم من بعدك.

وأنا من بعدك في غيبوبة قسرية. توقّف قسري عن الحياة.

لا يمكن ان أصدّق ابدا انّنا احياء، نشاهد فعلا ما يحصل ونشهد فعلا على كل ما يدور حولنا.
وكيف يمحي الماحون ذاكرتنا.

ما زال كلامك يتردد في أذني وأنت تقول بعد حرب 1967 وبعد حرب 1973 : الله يستر العرب ويسترنا
وبعد حرب 1982 كنت تقول " الظاهر قررّ أن يعاقبنا أيضا في لبنان".

ومع اشتداد الحرب الأهلية في لبنان كنت تقول: "الظاهر أنه سلّطنا على أنفسنا".

ومع أنني بأشدّ الشوق اليك.، بل بأشدّ الحاجة اليك، فأنا لا أريدك أن تعود الى هذه الدار لترى أنّ كلامك صحيح، وتعدّى لبنان الى ما بعد بعد لبنان.

الى سوريا ومصر وفلسطين واليمن والعراق والسودان والاردن وبلاد المغرب العربي والخليج العربي وحتى ايران وافغانستان..والحبل على الجرّار.
ولم يعد هناك امن ولا امان لا في لبنان ولا في اي من تلك البلدان.

أوكّد لك بأننا فعلا نيام، ونشاهد فعلا حلما مزعجا، بل كابوسا يطبق على أنفاسنا ويكاد يقتلنا.
هل يا ترى سنفيق؟
هل سنفهم ونستوعب اننا مهما اختلفنا نحن اخوان؟
هل سنفهم ونستوعب ان خلافاتنا مستوردة ومدروسة وجاهزة للتطبيق؟

قرأت اليوم مقولة لصديقة سورية تحاكي وطنها وتقول: سوريا٠٠٠نحن أولادك .. نحن مختلفون ولكننا أوفياء لك......
صحيح .......
ولكن اذا نحن كلنا اوفياء لبلادنا فلماذا نختلف وعلى ماذا؟

رحمة الله عليك يا والدي، أتخيّلك تضحك من شرّ البلّية.

سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات:

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات