29‏/01‏/2012

تركيا وعودة العثملّي


أسسس العثمانيون أقوى دولة اسلامية في العصر الحديث، استطاعت دحر الصليبيين، والسيطرة على بلاد كنعان وشبه الجزيرة العربية وشمالي افريقيا. واستولوا على بلاد اوروبا الوسطى امتدادا الى البلقان.
كما اجتاحت جيوش الدولة العلية جنوب ايطاليا واخذوا قبرص وحاصروا فيينا عاصمة النمسا. وسيطرت اساطيلها على طرق التجارة البحرية في البحر الاسود والبحر الابيض والبحر الاحمر امتدادا الى الخليج العربي الفارسي وبحر الهند.
الا ان ضعف الدولة العثمانية في أواخر عهدها جعل الدول الأوروبية تتآمر لاستباحتها امنيا وسياسيا، فأثاروا ضدها الحركات السياسية والدينية والعرقية اضافة الى التمردات الداخلية التي أنهكتها.
ووصل ضعفها الى أوجّه حين أعلن محمد علي باشا والي مصر انفصال مصر واستقلالها عن الدولة العلية. ثم جاءت الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية لتكرّس انفصالا دينيا وتلغي خلافة السلاطين العثمانيين.

اليوم نرى ان التاريخ يعيد الاحداث بشكل عكسي، ليرجع للدولة العليّة اعتبارها في المنطقة التي طغت عليها الفتن والمؤامرات، وقلبت معايير سياسية وعسكرية وحتى استراتيجية. واستعرت فيها الخلافات المذهبية والطائفية والعرقية. كيف؟
قبل الاجابة لنستعرض بعض الاحداث التي حصلت في المنطقة خلال القرن الماضي.

في أواخر عهد السلطان عبد المجيد الأول، نشبت عام 1860 فتنة طائفية كبرى في الشام، وتحديدًا في دمشق وسهل البقاع وجبل لبنان بين المسلمين والمسيحيين عموما، والدروز والموارنة خصوصًا، فوقعت مذابح مؤلمة. وكان سفراء بريطانيا وفرنسا يشجعون الفريقين على الانتقام ويساعدونهم على الثأر. خشي السلطان أن تؤدي هذه الفتنة إلى تدخل الدول الأجنبية العسكري، فأمر بإخمادها.
ولكن الدول الأوروبية قد ضغطت على السلطان وحملته على القبول بتشكيل لجنة دولية يوكل إليها أمر إعادة الهدوء إلى جبل لبنان ودمشق، وتصفية ذيول الفتنة.
قدّمت الدول الأوروبية الكبرى لائحة للدولة العثمانية تقضي بتحسين الأحوال المعيشية لرعاياها المسيحيين، وفرضوا مراقبة اوروبية لتنفيذ إجراءات التحسين. فرفضت الدولة اللائحة لأن هذا يعتبر تدخلاً صريحًا في شؤونها.
يذكرني هذا بما يجري حاليا مع سوريا....

استغلت روسيا هذا الرفض واعتبرته سببًا كافيًا للحرب، وفي هذه المرة أطلقت أوروبا العنان لروسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيين. فاحتلت الأفلاق والبغدان وبلغاريا ووصلت أدرنة وأصبحت على بعد 50 كيلومترًا فقط من الآستانة.
كذلك دخلت جيوشها الأناضول، وعادت الصرب والجبل الأسود لتعلن الحرب على الدولة العثمانية، فاضطرت الأخيرة إلى طلب الصلح، وأبرمت معاهدة سان ستيفانو مع روسيا عام 1877، التي اعترفت فيها باستقلال الصرب والجبل الأسود والأفلاق والبغدان وبلغاريا، ثمّ تمّ تعديل هذه المعاهدة في مؤتمر عُقد في برلين تمّ بموجبه سلخ المزيد من الأراضي عن الدولة العثمانية.

اليوم نرى المشهد نفسه ولكن بشكل مختلف وادوار متبادلة... لا ثابت الا التدخل الاجنبي في شؤون المنطقة.
محور الصراع اليوم سوريا بدل تركيا.
وتركيا اليوم رأس حربة تحول بشكل او بآخر دون تقدّم الدول الغربية عسكريا لفرض حالة معينة في المنطقة.

بيد ان الخلافات المذهبية والطائفية تكاد ان تنتفض نارها من تحت الرماد، ولن يستطيع احد اخمادها، حتى تركيا نفسها... الامر الذي سيسفر بالنتيجة عن تدخل عسكري اجنبي قوي في المنطقة بحجة حماية طوائف او مذاهب او اعراق معينة.
وكما كانت روسيا من قبل هي البادئة في الحرب ضد الدولة العثمانية، بحجة حماية المسيحيين، فيجوز ان تبدأ الحرب اليوم بحجة حماية العلويين، اذا لم تبدأها اوروبا الغربية بحجة حماية المسيحيين.
وقبل الخوض في تفاصيل اكثر، يستحسن التذكير بأمرين او حدثين بارزين حدثا في تلك الفترة، وتركا آثارا عظيمة ما زالت تتفاعل الى يومنا هذا.
الأزمة الأرمنية وقيام الحركة الصهيونية.

فقد عملت البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية على إذكاء الشعور القومي الأرمني، وفي الوقت نفسه اعتقدت الدوائر الحاكمة في الآستانة أن بعض الأرمن يعملون كعملاء لروسيا وبريطانيا، وساورها الشكوك حول ولائهم، ومن ثم نظرت إليهم على أنهم خطر يهدد كيان الدولة ومستقبلها وأمنها. ولم تلبث أن عمّت الاضطرابات أنحاء أرمينيا، وأخذ الثوّار يهاجمون الموظفين الحكوميين العثمانيين، وقاموا ببضعة مجازر في بعض القرى الإسلامية الكردية، فقام العثمانيون بالرد على ثورة الأرمن بأن أرسلوا جيشًا مؤلفًا بمعظمه من الأكراد إلى مناطق الثورة حيث دمّروا العديد من القرى الأرمنية وقتلوا كثيرًا من الثوّار ومن ساندهم، فيما أصبح يُعرف باسم "المجازر الحميدية".
هذه المجازر تبقى الى الآن تهديدا حقيقيا لتركيا ومانعا لها من الدخول في الاتحاد الاوروبي. كما انها تبقى ضغطا هائلا عليها لتنفيذ ما تريده اوروبا منها سياسيا وعسكريا. وليس اقله ما حدث مؤخرا في فرنسا بشأن قانونها بتجريم انكار المذابح الارمنية، وما تسببته من ازمة دبلوماسية حادة بين تركيا وفرنسا.
ويتسائل المرء، لماذا تريد فرنسا اصدار هذا القانون اليوم، في الوقت الذي تحتاجه الى كل الدعم التركي للسياسة الاوروبية والاميركية في المنطقة؟

أما الحدث الثاني والاخطر فهو قيام الحركة الصهيونية، التي نشأت بقيادة ثيودور هرتزل عام 1897، ودعت إلى إقامة وطن قومي ليهود العالم في فلسطين الخاضعة للدولة العثمانية وتشجيع اليهود على الهجرة إليها.
أصدر السلطان عبد الحميد يومها فرمانًا يمنع هجرة اليهود إلى الأراضي المقدسة، لكنه اضطر في نهاية المطاف إلى التهاون معها تحت ضغط الدول الأوروبية، وخاصةً بريطانيا.

وفي 1923 م تمت معاهدة لوزان التي قضت باستقلال تركيا وتوزيع إرث الامبراطورية العثمانية الذي كانت قد تم الاتفاق عليه سرياً منذ عام 1915 عبر اتفاقية سايكس بيكو والتي أفضت إلى حقبة الاستعمار الأوروبي الحديث في الشرق الأوسط.

وتمخّضت الاتفاقية عن تأسيس عصبة الأمم بدعم أميركي، التي يرجع الهدف إلى تأسيسها الحيلولة دون وقوع صراع مسلّح بين الدول كالذي حدث في الحرب العالمية الأولى ونزع الفتيل من الصراعات الدولية.
وافقت عصبة الامم على المطالب الاستعمارية لكل من بريطانيا وفرنسا وأقرت بشرعية انتدابها على دول المشرق.
ولكن هل نزع فعلا هذا الفتيل؟
ما يحدث من عروض قوى في الخليج والبحر الابيض المتوسط لا يدل على ذلك.

بدأ التطبيق الفعلي لمضمون اتفاقية سايكس بيكو سنة 1918 والمعارك لم تنته بعد وذلك حين قسم الجنرال اللنبي قائد الجيوش الحليفة في الشرق المناطق العربية إلى ثلاث: واحدة بإدارة فرنسية (الساحل) وواحدة بإدارة عربية (الداخل) والأخيرة بإدارة بريطانية.
لكن التغطية الدولية لهذه الاتفاقية جاءت عبر مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919 فقد طرح المؤتمر مفهوما جديدا للاستعمار هو الانتداب الذي اقترحه الرئيس الأمريكي ويلسون ورئيس وزراء جنوب أفريقيا الجنرال سمطس وهو ينص على تولي دولة كبرى شئون الدولة التي لا عهد لها بالحكم والتي خضعت لفترة طويلة لإحدى الإمبراطوريات المتداعية كالدولة العثمانية فتساعدها الدولة المنتدبة حتى تصبح قادرة على إدارة شئونها بنفسها.
فهل نضجت تركيا الآن لتعاود تولي شؤون المنطقة بعد ان برهنت على مهارة فائقة في ادارة شؤونها الدخالية؟

عندما رفض المؤتمر السوري العام اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور وأعلن قيام المملكة السورية ونصب الأمير فيصل ملكا عليها، عقد المجلس الأعلى للحلفاء في مدينة سان ريمو الإيطالية في أبريل 1920 وقرر ردا على المؤتمر السوري تطبيق اتفاقية سايكس بيكو التي تقضي بوضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب الإنجليزي وتعهد مؤتمر سان ريمو كذلك بالعمل على تطبيق وعد بلفور.
فهل يمهد قرار الجامعة العربية الاخير بشأن سوريا، لنوع من تدخل اجنبي في المنطقة؟
وهل سيجري الآن تطبيقا جديدا لاتفاقية سايكس بيكو، واعلان انتداب جديد في المنطقة بادارة تركية؟
وهل هذا ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر استنبول الاخير مع دول الخليج؟
المؤشرات الى الآن توحي بأن أمرا كهذا جاري الاعداد له وبدقة متناهية.
كيف؟

كانت بريطانيا مرتبطة مع الإمارات العربية الواقعة على سواحل الخليج العربي وعمان بمعاهدات حماية. وما زالت....
كذلك فرضت بريطانيا حمايتها على مصر والسودان... واليوم استبدلت بريطانيا بأميركا، وجاري العمل على فرض الحالة السياسية الاميركية على مصر والسودان بآن معا.
وكما سيطرت إيطاليا على ليبيا من قبل، فإن بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأميركا يعملون من اجل السيطرة الكاملة على هذه الدولة التي حكمها القذافي اربعة عقود متواصلة.
أما المغربي العربي فقد بدأ التغيير فيه من تونس وليبيا..وجاري العمل تدريجا لتطويع المغرب والجزائر.
ولكن كل هذا لا يمكن ان يتم الا بمساعدة تركية مباشرة، لهذا نرى القيادة السياسية في تركيا تجوب بلاد المنطقة كلها، تمهيدا لاحياء دورها الحالي كعراب من اهل البيت، بدل ان يكون العراب من خارج المنطقة.

وللفت النظر الى اهمية الدور التركي بشكله الحالي كراعي وعراب وليس كمحتل، فلا بأس من التذكير انه تم تقسيم المنطقة التي ظهر فيها اسم الهلال الخصيب، بموجب اتفاقية سايكس بيك، فكان لفرنسا الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فأمتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعا بالإتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
وكانت معاهدة لوزان نصّت تعديل الحدود التي أقرت في معاهدة سيفر. وتم بموجبها التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية إضافة إلى بعض المناطق التي كانت قد أعطيت لليونان في المعاهدة السابقة.

واليوم لا مانع ان يجري نفس التقسيم اذا لم يتمكن حكام المنطقة والقيادات الامنية والسياسية والعسكرية فيها بالامساك المحكم بزمام الامور.
وهذا الامساك المحكم لا يبدو انه ستقوم له قائمة، وفق منطق الامور السارية حاليا في المنطقة، الا بمساعدة تركيا واشراكها بخطط الدفاع على مقدرات البلاد العربية.
وليس صدفة ان يكون هذا هو مطلب اميركي اوروبي ايضا.
ويبقى الدور الروسي الذي يبدو انه موضوع على نار باردة بانتظار حسم الامور على الارض في كل من سوريا ولبنان ومصر وايضا في الخليج العربي الفارسي.
ويبدو ان روسيا لا تستطيع في هذه المرحلة سوى المعارضة الدبلوماسية، ضد التقدّم السياسي السريع لاميركا واوروبا في المنطقة. وإن بدى منها عرضا لعضلات عسكرية في المنطقة، فكل التحليلات تؤكد على عدم قدرة موسكو في دخول صراع عسكري في الوقت الراهن.

قسمت هذه الاتفاقية وما تبعها سوريا الكبرى أو المشرق العربي إلى دول وكيانات سياسية كرست الحدود المرسومة بموجب هذه الاتفاقية والاتفاقيات الناجمة عنها وهي:
العراق، استقل عام 1932
منطقة الانتداب الفرنسي على سوريا:
سوريا، استقلت فعلياً عام 1946
لبنان، استقل ككيان مستقل عام 1943.
أما الأقاليم السورية الشمالية فقد ضمت لتركيا
منطقة الانتداب البريطاني على فلسطين:
الأردن، استقل ككيان مستقل عام 1946 (كانت منطقة حكم ذاتي منذ 1922) -  
فلسطين، انتهى مفعول صك انتداب عصبة الأمم على فلسطين يوم 14 أيار 1948 وجلى البريطانيون عنها.
لكن في اليوم التالي أعلن قيام إسرائيل فوق أجزاء كبيرة من حدود الانتداب البريطاني على فلسطين وبدأ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث في 1949 (إثر حرب 1948 وبعد إلغاء الانتداب البريطاني) قسمت فلسطين إلى ثلاث وحدات سياسية: إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة.
وسنعود الى هذا الموضوع بتفصيل اكبر.

والسؤال في موضوعنا اليوم:
هل ستعود تركيا لادارة شؤون المنطقة؟
واذا عادت... فهل سيعود العسكر العثملي؟
وماذا سيكون الموقف الفارسي؟
وكيف ستوافق روسيا؟
ربما تظهر بعض الاجابات قبل عرض المقال القادم.

سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات:

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات