05‏/08‏/2012

الحروب الصليبية ونتائجها علينا في المقلب الآخر


فشلت الحروب الصليبية التي خاضتها دول اوروبا الدينية مجتمعة ومتفرقة فشلا ذريعا من الناحية العسكرية وأدّت الى قيام دولة اسلامية عثمانية استطاعت خلال فترة وجيزة ان تصبح دولة عُظمى يخشاها الشرق والغرب.
واستطاعت الدولة العثمانية الاسلامية ان تهيمن على كافة منطقة الشرق الاوسط ودول البحر الاحمر وطالت فتوحاتها دول اوروبا على ساحل البحر الابيض المتوسط والمغرب العربي وبعض دول افريقيا على ساحل الاطلنطي غربا وساحل افريقيا الشرقي في بحر الهند امتدادا الى الخليج العربي الفارسي وبعض اقاليم الشرق الادنى. كما طاولت ايضا دول اوروبا الوسطى واخضعتها لحكمها.
كانت هذه النتائج المباشرة في منطقتنا.
أما النتائج المباشرة في اوروبا فقد كانت عكسية بمعنى ان دول اوروبا الغربية ايقنت كلها ان النزعة الدينية في التركيبة السياسية لا تؤدي الى النتائج المطلوبة بل على العكس تودي احيانا الى التهلكة. وايقنوا ان النزعة الدينية في السياسة تقابلها نزعة دينية اخرى. وكانت عليهم اشد اذ وصل المسلمون الى مشارف العاصمة الفرنسية بجندهم وخيلهم.
لذلك كان من اهم نتائج الحروب الصليبية في اوروبا هو الانقلاب على سلطة الكنيسة وتحويل السلطة تدريجا في البلاد الى سلطات مدنية لا يصل نفوذ الكنيسة اليها.
وبسرعة فائقة استطاعوا احتواء هزائمهم وشدّوا عزائمهم وعملوا على اضعاف الدولة العثمانية بالحنكة والدهاء والتكاتف السياسي بين دول اوروبا الغربية والشرقية مع بعضها البعض.
وكانت قمة دهائهم في زرع بذور الفتن الطائفية بين الاطياف من العراق الى لبنان وفلسطين الى درجة وقوع مجازر وصراعات عنيفة بين تلك الطوائف لم يكن بإمكان الدولة العثمانية التي ظهرت عليها علامات الشيخوخة ان تنجح في اطفائها.
ولكي يُرضوا الكنيسة سمحت حكومات الدول الاوروبية بارسال بعثات تبشيرية الى بلدان الشرق الاوسط كانت لها وظائف متعددة. فبالاضافة الى وظيفتها الدينية التبشيرية الاساسية كان لها وظائف سياسية وتجسسية وعملت على تأليب الطوائف المسيحية على الطوائف الاسلامية. واسست لتوسيع الهوّة بين الطائفة السنية والطائفة الشيعية في كل من العراق وسوريا ولبنان على وجه الخصوص.
ولما قامت الحرب العالمية الاولى كان من السهل على دول الغرب القضاء على الدولة العثمانية واخضاعها وارث ممتلكاتها في المنطقة وانشاء انظمة سياسية تابعة لها. غير انها لم تهمل يوما تقوية الحالات الدينية في المجتمعات التي كانت تنادي بتحرير الاوطان، والتي كانت ايضا لا تعترف الا بالتعليم الديني وتعتبر كل تعاليم اخرى اشكال مختلفة من الكفر. تماما كما كانت الكنيسة حتى القرن التاسع عشر في اوروبا تعتبر ان كل عالم ومخترع هو ابن للشيطان.
ولما حاول هتلر المانيا ان يخلق دولة عنصرية عرقية ضد العرق السامي، كان لاوروبا الفرصة الكبرى بعد هزيمة هتلر لخلق دولة اسرائيل اليهودية في المنطقة والغاء فلسطين وخلق حالة نزاع جديدة في المنطقة بين الطوائف ومنها الطائفة اليهودية.
والآن يتبادر الى الاذهان اسئلة بداهية بسيطة يجوز ان تكون الاجوبة عليها ايضا سهلة وبسيطة، الا انها بنفس الوقت معقّدة الشرح والاسلوب، كما هي شديدة التعقيد في الاهداف.
من هذه الاسئلة مثلاً: كيف وُجدت حركة الاخوان المسلمين وكيف استطاعت الصمود لقرن كامل تقريبا، رغم كل الصعوبات التي مرت بها والعقوبات التي كانت تضغط عليها؟ ومن موّلها ويموّلها، ويحرص على ان لا تنتفي خصوصا في مصر وسوريا؟ وكيف وصلت الى حكم مصر الآن ولو على قواعد غير متينة؟
وكيف استطاع الامام الخميني ان يصدر ثورته من فرنسا الى ايران، ويخلع شاه ايران حليف الغرب الاقوى، ويهيمن على الحكم في ايران حتى يومنا هذا رغم حروبه مع العراق ورغم العقوبات الاقتصادية القاسية ورغم العزلة المميتة التي تتخبط فيها ايران اليوم؟
وكيف استطاعت حركة حماس ان تبصر النور، وتقوى الى درجة السيطرة على قطاع غزة والتمسك به وطرد السلطة الفلسطينية منها، رغم حصار اسرائيل القاتل للقطاع، ورغم الغارات الشنيعة التي تشنها اسرائيل في كل فترة فتقتل العشرات من الابرياء وتدمر ما تم بناؤه؟ وكيف يستطيع السلاح ان يصل الى سلطة حماس برغم كل هذا الحصار الهائل؟
وكيف ظهر فجأة تنظيم اسمه القاعدة سيطر على افغانستان بعد ان انسحب الروس منها، وعمل لاحقا على تفجير ابراج نيويورك ووزارة دفاع واشنطن؟ وكيف هو الى الآن وبعد احتلال افغانستان من قبل الغرب، لا يزال ناشطا في مختلف البلاد من افغانستان الى العراق الى اليمن؟ فمن يموّل هذا التنظيم ومن يساعده على ارساء دعائمه في المنطقة؟
وكيف انتهت الحرب الاهلية في لبنان وتمت المصالحة بين الاحزاب والطوائف، وبقي السلاح معهم جميعا وليس فقط مع حزب الله؟ ومن يموّل كل هذا السلاح؟ ومن يحول دون تقوية الدولة اللبنانية؟
وكيف برزت الاحزاب السلفية والاحزاب الدينية الاصولية الاخرى وولدت ومعها اسلحة واموالا لا يمكن حصرها؟ فمن أين جائت كل هذه الاموال وكل هذه الاسلحة؟
من السهل جدا ان نوجّه اصابع الاتهام الى اجهزة مخابرات العالم كله، ونقول ان التمويل يتم من اميركا واسرائيل واوروبا والسعودية وايران وقطر وتركيا وسوريا وروسيا والصين وكل من والاهم وعمل ضمن سياساتهم.
ولكن هل كل هؤلاء يسعون الى خلق دول أو انظمة سياسية دينية في المنطقة؟ واذا كان الجواب نعم، فكيف؟
هنا تبدأ الاجابات بالتعقيد. فمثلاً روسيا والصين وايران وسوريا وحتى اسرائيل ليست في وارد السماح لانظمة سنية اصولية في المنطقة. ولكن ما يعني نجاح الاخوان المسلمون في مصر؟
ربما الجواب على هذا السؤال هو الصراع الدامي الدائر حالياً في سوريا.
أمّا اميركا واوروبا فربما اختاروا اهوَن "الشرور"، بتأييدهم الاخوان المسلمين في تونس ومصر، وإبقاء ليبيا علمانية. كما اختاروا الاسلحة التي يظنون انهم يستطيعون بها القضاء على حزب الله الشيعي واخضاع ايران. وذلك بأن يؤججوا الصراع في المنطقة بين السنة بقيادة تركية، وبين الشيعة بقيادة ايران.
وربما ولكي يضمنوا عدم انقلاب الاسلاميين عليهم، نجحوا في تفسيمهم الى فئات وحركات وتيارات واحزاب سنية، كل وِحدة منهم تنادي بإمارة اسلامية سنية مختلفة عن الاخرى. وهكذا بنظرهم يقضي على نفوذ ايران في المنطقة اذ ان كل الحركات الاسلامية السنية ضدها. وفي نفس الوقت هم (الحركات الاسلامية السنية) ضد بعضهم البعض حتى يهنوا ويضعفوا ولا يشكّلوا أي خطر على أمن اسرائيل. وهو الغاية النهائية بالنسبة للغرب في كل ما يجري بالمنطقة.
وهكذا نجح الغرب والشرق في ادارة حرب صليبية من نوع آخر علينا. وهذه الحرب تدور دوائرها الآن على اراضينا وفي بلادنا ومناطقنا وبين ابنائنا واخواننا ضد بعضهم البعض. شيعة وسنة واقباط ومسيحيين ودروز.
نسمع اليوم ان وكالة ناسا الفضائية الاميركية تترقب هبوط بسمارها على سطح المريخ.
ويؤلمنا أن نسمع ان شعوب مصر والعراق ولبنان يعانون من انقطاعات متواصلة في التيار الكهربائي. ويؤلمنا ان نسمع ان الكهرباء يلزمها اجهزة ومعدات وتقنية وصيانة غربية كي لا تنقطع.
ويؤلمنا أكثر ان نختلف على شرعية النقاب والحجاب وحقوق المرأة. وتلهينا أحكام الشريعة في تفاصيل بسيطة لحياتنا الشخصية.
ويؤلمنا أكثر وأكثر ان يصل بنا الجهل الى درجة قتل بعضنا البعض واحيانا بدمٍ بارد، كي نكسب جاهاً او منصبا او نفوذا معينا.
ويفطر قلبنا ان نشاهد على صفحات الانترنت الاجتماعية جماعات تستجدي الصلاة على الرسول او حب السيد المسيح، ولا نفهم لماذا. فالرسول صلى الله عليه وسلم والسيد المسيح عليه السلام، لا ينقصهما معجبين ولا تعليقات كي تزيد شعبيتهما.
عندما نصل الى ما فهمه الغرب منذ قرن مضى ان الدين لله وحده. وأن الدين والسياسة لا يجب ان يجتمعان كي لا يفسد احدهما الآخر. عندها فقط نكون قد حافظنا على ديننا وارتقينا في كياننا السياسي وكياننا الاجتماعي وكياننا الفكري.
وعندما تصفى قلوبنا ونتقبّل الدين حالة جامعة وليست وسيلة للفرقة، نكون قد وصلنا الى درجة الوعي العقلاني والنقاء الربّاني.
وعندما نقتنع ان مجتمعاتنا هي مجتمعات تعددية كانت منذ الازل ولم تزل الى يومنا هذا، وهكذا ستكون غدا. ولم تستطع كل الحروب الشرسة التي دارت منذ التاريخ ان يتنصر فيها مجتمع على آخر، ولا استطاعت أن تُلغي فيها كينونة العيش المشترك.
لو بدأنا هذا الوعي، عندها فقط نقفز من حالة انعدام الكهرباء الى حالة توليد الكهرباء بتقنيتنا ووسائلنا واجهزتنا وخبرائنا. 
سامي الشرقاوي

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات