29‏/05‏/2011

نصر الله دفاعا عن النظام السوري كحّلها أم عماها؟


والسؤال المباشر هو ماذا يتوقّع  السيد حسن نصر الله ان تكون ردود الفعل المباشرة والغير مباشرة على خطابه الداعم لنظام الحكم السوري؟
وما هي النظرة السياسية العامة التي رآها زعيم حزب الله في المنطقة، والتي دفعته الى تخصيص خطابه في ذكرى جلاء الاحتلال الاسرائيلي عن جنوب لبنان، الى الدفاع عن نظام الحكم السوري في سوريا؟
وما أو بالاحرى من الذي أقنع السيد نصر الله، أنّ كلماته ستلقى آذانا صاغية في الشارع السوري، خصوصا وان هذا الشارع يزداد غليانه في تظاهرات ضد نظام الحكم امتدّت في خلال شهرين أو يزيد الى معظم المحافظات السورية؟

عندما ظهر السيد حسن نصر الله ملقيا خطابه الشهير دفاعا عن ثورة المعارضة في البحرين، وعرض خدمات حزب الله وامكاناته في تصرّف المعارضة البحرينية، كانت النتيجة معاكسة لما اراده زعيم حزب الله، فتشدّدت السلطة البحرينية في قمع التظاهرات، وتكاتفت دول الخليج العربية لدعمها الى حدّ ارسال قوات عسكرية الى البحرين ساعدت السلطة في ازالة كل آثار تجمعات المعارضة من شوارع المدن البحرينية.
وقبل ذلك حيّا السيد نصر الله الثورة المصرية وثوّارها، واستنشق عبرهم ومعه المرشد الروحي لايران ربيع ثورة اسلامية استلهمت تحرّكاتها من الثورة الايرانية التي قادها الامام الخميني. غير ان ردّ فعل الشارع المصري، والحكومة الانتقالية في مصر ومعها المجلس الاعلى للقوات المسلحة، كلهم ردّوا بشكل مباشر و غير مباشر على السيد نصر الله وايران، في الشارع ومن خلال البيانات المباشرة من الدولة بعدم الغاء المعاهدات القائمة بين مصر والدول الاخرى بما فيهم اسرائيل. وآخر تلك الردود كان بكشف جاسوس يعمل في مصر لصالح ايران وطرده من البلاد.
بالطبع كان الرد الاقوى من قبل مجموعة الثمانية التي رصدت 40 مليار دولار اميركي للربيع العربي وقبول الدول العربية المعنية لتلك المخصصات.
أمّا بالنسبة الى سوريا، فقد ظهر السيد نصر الله في خطابه الاخير مدافعا عن السلطة السورية، راجيا من الشعب السوري الحفاظ على بلدهم ونظامهم "الممانع والمقاوم" واعطاء المجال للقيادة السورية بالتعاون مع كل فئات شعبها لتنفيذ الاصلاحات المطلوبة. مؤكّدا ان أغلبية الشعب السوري مع النظام الحالي في سوريا وتؤمن بالرئيس بشار الاسد وتراهن على خطواته في الاصلاح.
كان الرد من داخل سوريا سريعا وفق ما ورد في وسائل الاعلام عن احراق اعلام حزب الله وصور نصر الله في بعض شوارع سوريا.
كما وردّ مسؤول غربي وفقا لصحيفة الشرق الاوسط (التي لم تذكر اسمه) بطريقة غير مباشرة على خطاب نصر الله انه يجب على لبنان ان يختار بسرعة الى جانب من سيقف في الازمة السورية. وقال المسؤول الغربي بحسب الصحيفة نفسها ان دعم  تشكيل حكومة في لبنان يرى العالم ان حزب الله هو المسيطر عليها سيجعل من السهل على المجتمع الدولي ان يضع لبنان وسوريا في خانة واحدة، داعيا اللبنانيين ان يفكّروا في يوم لا يكون فيه النظام في سوريا مثل النظام الموجود حاليا. كما رأى هذا "السؤول الغربي" ان النظام السوري يقود سوريا الى مكان لا مخرج منه، وأنّ تقرب لبنان من سوريا في هذه الأوقات ليس من مصلحة لبنان.

ربما لو لم يصبح حزب الله المقاوم فريقا سياسيا مسلحا في لبنان، لكان كلام السيد نصر الله له وقع أقوى في الشارع العربي.
ويجوز انه لو نأى حزب الله بنفسه سياسيا عن الاحداث الجارية في منطقة الخليج العربي والفارسي، وركّز على مهمة حزب الله الاساسية وهي مقاومة الاحتلال الاسرائيلي وتحرير ما تبقّى من اراض لبنانية محتلة، لكان صدى كلامه تردّد ليس في منطقة الشرق الاوسط بل في العالم أجمع.
ليس من منطق السياسيين أن يروا الصورة أمامهم بعين واحدة، او من الزاوية التي يريدون ان يروها. فالسياسي الفذّ هو الذي يتفحّص الصورة بأكملها، ويعمد على تصحيحها لصالحه.
وسياسة حزب الله التي يتّبعها حاليا في لبنان، مبنية على أساس ان كل الشعب اللبناني هو مع الحزب، وأن المعارضين هم فقط زعماء أحزاب مع بعض حاشيتهم. لذلك فإن جميع المحاولات التي يقوم بها حزب الله مع حلفائه تبوء بالفشل، وأهمّها محاولته التي اننتجت له مؤخّرا أكثرية  عددية قليلة في البرلمان اللبناني تخوّلها تأليف حكومة مؤيّدة لسياسة الحزب والتي فشلت فشلا ذريعا بدليل عدم تمكّنها الى الآن من تشكيل حكومة ولو من لون سياسي واحد.
كما خسر الحزب في محطّات سياسية عدة من قبل، مثل فشله في السيطرة عسكريا على لبنان، وفشله في محاولة ابقاء الجيش السوري في لبنان، وفشله الاهم في الاستفادة من النصر الذي اكتسبه عام 2000 بسبب انسحاب اسرائيل من الجنوب اللبناني وتجييره لصالح المقاومة وحزب الله.
وأخطأ حزب الله في التسبب بحرب تموز 2006، ثم أخطأ بالانجرار وحده في هذه الحرب، وأخطأ في معارضة الحكومة اللبنانية آنذاك والانقلاب عليها فيما بعد.
طبيعي ان يتّخذ حزب مثل حزب الله اية اجراءات ميدانية عسكرية او سياسية، لحماية ظهر المقاومة، في الداخل والخارج، وتأمين الحالة السياسية التي تؤيّد سياسته وتستطيع من وجهة نظره تأمين الحماية اللازمة في الداخل اللبناني.
بيد أن الطبيعي أكثر والانسب للمقاومة، أن تكسب كل الشعب اللبناني حبّيا وودّيا لدعمها، تماما كما كان الحال قبل عام 2000 عندما كان السيد حسن نصر الله يعتبر بطلا قوميا على امتداد الشارع العربي، لذلك من المؤسف ان يصبح حسن نصر الله مجرّد بطلا في طائفته وعند بعض حلفائه.
ظهر المقاومة اللبنانية يجب ان يكون دائما مؤمّنا بواسطة نظام سياسي متكامل مدنيا وعسكريا، ودولة قوية وحكومة متناسقة وجيش لا يقتصر دوره على فض الخلافات في الشارع.
المقاومة اللبنانية تضعف في كل مرّة يظهر فيها احد اركان حزب الله كان ذلك الامين العام نفسه ام أحد مسؤولي اعلامه او اي من نوّابه أو معاونيه السياسيين والعسكريين، او حتى من يدافع عن الحزب وهو في أشد الحاجة لمن يدافع عنه، ويتكلّم أي من هؤلاء كلاما يخلو من السياسة الفعلية ولا يشير الى اي تقدّم للمقاومة، غير تقدّمها في تجميع ترسانة اسلحتها وصواريخها، ويركّز فقط على انتقاد الخصوم السياسيين في الداخل، والتشهير بهم.
ربما كان هذا ردّ فعل لما يفعله الخصوم، فهم ليسوا اكثر حنكة في السياسة ولا همّ لديهم سوى اسقاط حزب الله حتى لو سقط لبنان كله مع المنطقة بأسرها.
المطلوب من حزب الله بكل صدق، أن ينأى بنفسه عن السياسة الداخلية في لبنان، ويعود الى مقاومته فعلا، ويتقرّب من خصومه لأنهم ليسوا أعدائه، عندئذ يسترجع حزب الله مكانته ويستطيع السيد حسن نصر الله ان يلقي خطابا مؤثرا يلقى صداه في ارجاء المنطقة.
والمطلوب بكل صدق من خصوم حزب الله، ان يرقوا الى المستوى السياسي المسؤول، ويتقاربوا من خصومهم السياسيين في لبنان لأنهم ليسوا اعدائهم وهم وحدهم القادرين على النهوض معهم لبناء الدولة اللبنانية القوية السيدة الحرة المستقلة,
الوقت الحالي يسمح بذلك لأن دول المنطقة بأسرها منشغلة بهمومها الداخلية، ولأن المجموعة الغربية لا همّ لديها اليوم الاّ السيطرة بأي شكل على كامل المنطقة "المفتّتة".
واذا بقي حزب الله متخاصما مع جزء كبير من الشريحة اللبنانية، فستبقى المقاومة هدفا سياسيا، ومع كل النية الحسنة للسيد نصر الله التي يبديها للسلطة في سوريا، فإن خطابه الاخير يكاد ينطبق عليه المثل اللبناني " بدل أن يكحّلها عماها".
وربما لذلك لم يظهر النظام السوري اهتماما بالغا لخطاب السيد نصر الله، بدليل انه لم يحاول تسويقه وبيعه قي ساحة الصراع لصالحه، لكسب تأييدا سياسيا او شعبيا ما.

سامي الشرقاوي

Enhanced by Zemanta

25‏/05‏/2011

الكونغرس الاميركي يصفّق لخطاب نتنياهو الموارب ويهلل لخيبته!


قاطع المشرّعون الاميركيون خطاب رئيس وزراء اسرائيل بالتصفيق حوالي 30 مرة في خلال 40 دقيقة، أي تقريبا عند انتهائه من كل جملة قالها في الخطاب.
لا يوجد اي ضرر من تأييد سياسات معينة والوقوف بقوة الى جانب الاصدقاء والحلفاء السياسيين، فالكل يفعل ذلك. غير ان المؤذي حقا محاولة اعادة كتابة التاريخ بطراز خاص يخلط الاوراق بحيث يصبح الخطأ صح والصح خطأ.
اذا ا كان وفق ما يدّعي نتنياهو ان الشعب اليهودي ليس المحتل الاجنبي للأرض، فاسرائيل حتما هي كذلك.
في خطابه امام الكونغرس الاميركي، يقول رئيس وزراء اسرائيل " اذا كنتم تعرفون السامرة، فإن الشعب اليهود ليس محتلا". واضاف " ويجب ان تبقى اورشليم العاصمة لاسرائيل الموحّدة"!
لا يمكن تحديد عدد اعضاء مجلس الكونغرس الذين وقفوا يصفّقون لنتنياهو عندما قال هذا الكلام، الذين يعرفون السامرة وتاريخ اورشليم القدس!
لكن الاكيد ان السامرة والقدس كانوا محتلين من قبل اليهود في الماضي بغية اقامة مملكة اسرائيل وهم ايضا يحتلونهما اليوم، في سبيل اقامة دولة اسرائيل.
السامرة اليوم هي جبال نابلس، ووتقع في الجزء الشمالي من الضفة الغربية. وبحسب الانجيل فإنها تمتد من شاطيء البحر الابيض المتوسط الى وادي الاردن. وكانت مدينة السامرة في وقت من التاريخ عاصمة مملكة اسرائيل.
فكيف حصل ذلك؟ وكيف قدم اليهود الى تلك الارض؟
اذا خضنا في جذور التاريخ، واعتمدنا ايضا ما ورد في العهدين القديم والحديث، فإن سكان ارض كنعان كانوا دائما من خليط شعوب استوطنوا فيها قبل ان يقرر ابراهيم ترك موطنه في بلاد ما بين النهرين والاقامة في ارض كنعان وجعلها موطنه الدائم.
وابراهيم بالطبع هو أبو الديانات الرئيسية الثلاثة.
كان "اليبوسيون" من ضمن الشعوب التي كانت متواجدة هناك، وهم طرف من سلالة كنعان استوطنوا فلسطين وبنوا فيها مدينتهم يبوس الى ان غزاها داود وسمّاها اورشليم.
وكان "أبرشيد" ابن "سام" والد "عابر" الذي هو البذرة الرئيسية للعبريين. وولد عابر "قحطان" الذي هو البذرة الرئيسية للعرب.
أما الابن الثاني لـ"عابر" فكان "فالغ" شقيق "قحطان" فقد استولى على بابل. وبحسب "سفر التكوين" فإن الارض في عهده انشقّت ما فسّر سياسيا بداية الصراع بين الشقيقين. ونتيجة لذلك الصراع، نزح "قحطان" عن بابل واستوط في شبه الجزيرة العربية. وكان من سلالته "عدنان" و"معاد" أجداد الرسول العربي "محمد"، الذي شاء ان يؤرخ سلالته حتى يقف عند "عدنان" دون ان يشرح أسباب ذلك.
اما ابراهيم فهو من سلالة "فالغ" وقد تزوج السيدة سارة وانجب منها "اسحق" الذي نشأ وترعرع بين العبرانيين. كما كان قد انجب "اسماعيل" من السيدة هاجر، وقد نشأ وترعرع بين العرب. ومن "اسحق" جاء "يعقوب" أبو الاسرائيليين.
نزح ابراهيم عن بابل واستوطن في مدينة "شكيم" في بلاد كنعان، نابلس اليوم. ولاحقا بعد هجرة اليهود الجماعية من مصر، استجمع "جشوا" الاسرائيليين وشجّعهم ان يلتزموا بما جاء في "التوراة" ويستولوا على الارض المقدسة.
وبحسب "سفر التكوين" فإن "ارض الميعاد" هي وعد من الله لسلالة ابراهيم.
بالطبع فإن اليهود والمسيحيين والمسلمين هم كلهم من سلالة ابراهيم، وهنا يكمن الخلاف. ولهذا انشأ اليهود مملكة اسرائيل لتكون عاصمتها اورشليم، وغزا الصليبيون البلاد ليأخذوا القدس مدينة المسيح، وحارب المسلمون لتحريرها لأنها أولى القبلتين والقاعدة التي انطلق منها نبيهم محمد عارجا الى السماء.
في الوقت الذي ولد فيه موسى (حوالي 1300 قبل الميلاد) كانت الامبراطورية الحيثية تمتد على معظم ارض "الاناضول" واجزاء من "سوريا" وبلاد "كنعان".
اذا اعتمدنا التقويم الانجيلي، فقد نزح موسى بالعبرانيين من مصر ما بين عام 1400 وعام 1300 قبل الميلاد. وكانت مملكة "أشور" قد اصبحت في ذلك الوقت من اقوى الدول على الارض وفقدت مصر سيطرتها على الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط.
كانت "سيناء" المحطة الاولى لـ "موسى" في طريقه الى "ارض الميعاد" الا ان الاسرائيليين الذين انقذهم من بطش فرعون رفضوا دخول الارض الموعودة خوفا من العمالقة "الاموريين".
لم يستطع موسى موسى دخول "ارض الميعاد" وتوفي في مكان ما على شاطيء نهر الاردن.

الاحتلال الاول
بعد وفاة موسى، غزا "جشوا" بلاد كنعان ودمر مدينة "أريحا" واستطاع من هناك ان يقود الاسرائيليين الى عدة انتصارات واحتلال المزيد من اراضي كنعان. واستوطن الاسرائيليون المنطقة الى ان جاء الملك "داود" وأقام فيها "مملكة اسرائيل".
يعتبر اليهود "داود" ملك اسرائيل والشعب اليهودي، ولكنه ايضا شخصية دينية مرموقة عند المسيحيين ونبيا رسولا عند المسلمين.
أشار المؤرّخون دائما الى مملكة اسرائيل انها "المملكة الشمالية" وهي تختلف اختلافا تاما عن "المملكة الجنوبية" وهي "مملكة يهوذا".
وعندما توّحدت القبائل الاسرئيلية الاثنتي عشر، استوطنوا في مساحة هي تقريبا اليوم الارض الفلسطينية المحتلة من قبل اسرائيل.
وكانت "شكيم" اول عاصمة لمملكة اسرائيل وبعدها مدينة "تيزراح" التي هي الآن قرية صغيرة في نابلس تدعى تل الفرح.
بعد "داود" أصبح "سليمان" الملك الثالث للملكة المتحدة وآخر ملك قبل انقسام المملكتين واحدة في الشمال تدعى مملكة اسرائيل فيها "شكيم " و "السامرة" وأخرى في الجنوب وتدعى "مملكة يهوذا" وفيها "اورشليم".
استمرت مملكة اسرائيل بالوجود في مساحتها المجتزأة، الى ان غزاها "الآشوريون"  حوالي عام 720 قبل الميلاد، ولجأ سكانها الى المملكة الشمالية وخاصة مدينة اورشليم.
عام 586 قبل الميلاد غزا البابليون المملكة الشمالية واحتلوا مدينة القدس وهدموا المعبد، فأنهوا بذلك ما يسمّى بحقبة المعبد الاول.
وبعد 50 سنة انهى ملك الفرس "قورش" الاحتلال البابلي ودعا اليهود للعودة الى اورشليم واعادة بناء المعبد وانتهى البناء عام  قبل الميلاد 516 في عهد الملك الفارسي "داريوس".
وحوالي عام 445 قبل الميلاد، اصدر الملك "ارتحششتا" قرارا ملكيا يسمح ببناء اسوار مدينة اورشليم.
ولمّا غزا الاسكندر المقدوني بلاد كنعان، ودحر الفرس عنها باتت يهودا واورشليم تحت الحكم المقدوني الى ان حكمهما البلاطمة وخسروهما لاحقا لـ "السلوقيين"  عام 198 قبل الميلاد.
عام 64 قبل الميلاد احتل "بومباي" القدس، وضم المملكة الشمالية الى الامبراطورية الرومانية. وفي عام 4 قبل الميلاد، عين الرومان "هيرودس اخيلاوس" حاكما على بلاد السامرة ويهودا وأدوم، وبقي كذلك حتى عام 6 ميلاديا عندما وضع الرومان اقليم يهودا تحت الحكم المباشر لروما في وقت كانت اقاليم سوريا وليديا خاضعة للنظام الضريبي لروما. وبرز اقليم "أدوم" الذي ضم بلاد السامرة ويهودا وأدوم.
يربط "انجيل لوقا" ولادة المسيح باحصاء عالمي فرضه الرومان، أجبر الاشخاص للعودة الى مدنهم التي ولدوا فيها هم واجدادهم. لذلك يبدو ان والدة السيد المسيح مريم وزوجها يوسف اضطرا للعودة بسبب النظام الضريبي، من الناصرة الى بيت لحم المدينة التي ولد فيها المسيح.
عندما غزا الرومان الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط قبل مولد المسيح، اعتمدوا اسم "فلسطين" وأطلقوه على كامل المنطقة جنوب ارض كنعان، بما فيها الاراضي التي احتلها اليهود سابقا. واصبحت "فلسطين" جزءا من الامبراطورية الرومانية التي سيطرت على كامل اجزائها بواسطة عدة وسائل.
وبدأ اليهود واعراق مختلفة من بلاد ما بين النهرين ينزحون الى منطقة النفوذ، مما حذى المؤرخ "سترابو" الى القول ان منطقة كنعان كان يقطنها مجموعات متجانسة من سوريا وبلاد ما بين النهرين، وان العرب باتوا يشكّلون ثلت السكان.
يشير المسيحيون الى فلسطين على انها الارض المقدسة لانها شهدت مولد ووفاة المسيح. وهي ايضا مقدسة بالنسبة الى اليهود والمسلمين.
غير انه في الوقت الذي ولد فيه السيد المسيح، كان اليهود يفهمون العالم على انه مقسوم الى قسمين من الشعوب؛ اليهود والمشركون (الغير يهود). وكانوا يعملون جهدهم ليفصلوا انفسهم سياسيا واجتماعيا عن الفئة الاخرة (المشركة).
وعندما ظهر الدين الاسلامي، اعاد احياء عبارة "الدين الحنيف" اشارة الى الحقبة التي سبقت مجيء الديانات الثلاثة. ويعتبر المسلمون ان ابراهيم ليس يهوديا ولا نصرانيا بل حنيفا مسلما، وانه وابنه اسماعيل اول المسلمين، وهما اللذان بنيا الكعبة ومن نسلهما انحدر كل العرب.
وبعد وقت قصير من ظهور الاسلام استطاع المسلمون من السيطرة على كامل مصر وسوريا وفلسطين، وفقد بعض المسيحيبن واليهود نفوذهم في تلك البلاد.
وعندما قرر المسلمون اخذ القدس عرض حكامها الاستسلام فقط للخليفة عمر بن الخطاب الذي قدم الى المدينة لاستلام مفاتيحها.
قسّم المسلمون بلاد الشام الى اربعة اقسام: جند دمشق – جند حمص - جند الاردن – جند فلسطين الذي يشمل اراضي يهودا والسامرة وجنوب الاردن وفلسطين والجليل والجولان وشمال الاردن وهي كلها ارض كنعان.
ولان المسلمين يعتبرون انهم الخلفاء الطبيعون لابراهيم وموسى وعيسى وباقي الرسل والانبياء، فإن فلسطين تبقى دائما بالنسبة اليهم ذات اهمية قصوى.
وجد المسيحيون واليهود في المسلمين سفينة خلاص من الاضطهاد الذي كانوا يعانون منه طوال الفترة التي تلت الحروب الفارسية.
ونعم اليهود خاصة بحرية لم يجدوها في اي مكان او زمان. فقد الغى المسلمون كل القيود التي وضها الرومان والبيزنطيون على اليهود وخاصة التي فرضت عليهم حظرا على الاقامة في القدس او حتى زيارتها. كما منحهم المسلمون سلطة تامة لتطبيق قوانينهم الدينية والاجتماعية والقضائية. وحصل العديد من اليهود والنصارى على مراكز مرموقة في كل العهود الاسلامية.
وفي عهد الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان، اشاد المسلمون قبة الصخرة قرب المسجد الاقصى الذي اكتمل بنائه في عهد الوليد بن عبد الملك.
كان بناء القبة في الموقع نفسه الذي شهد الحجر الاساسي الذي وضعه النبي "يعقوب" بعد ان حلم بالسلم الذي اوصله الى السماء حيث اطلق عليه الله لقب "اسرائيل". وهو نفس الموقع الذي منه عرج النبي محمد الى السماء. وفي بنائه اراد المسلمون التعبير عن قدسيتهم لمدينة القدس التي يعتبرونها اول قبلة لهم.
وبعد عدة قرون من سيطرة المسلمين على "الاراضي المقدسة"، رأى بعض المسيحيين انه آن الاوان لاعادتها تحت السيطرة المسيحية. فخاط بعض الرهبان في الغرب صلبانا على قمصانهم وتنادوا الى حملة صليبية "لانقاذ القدس".
مشى الصليبيون بقيادة الملك "غودفري" الى القدس وسيطروا عليها بعام 1099، وبعد عام توفي "غودفري" واصبح أخوه "بالدوين" ملكا على القدس.
وفي عام 1187 استطاع الملك الايوبي "صلاح الدين" تحرير القدس من قبضة الصليبيين، ودعا اليهود للعودة الى المدينة واستعادة املاكهم وحقوقهم.
وفي عام 1228 استطاع الملك "فريدريك" اخذ "القدس" في حملة صليبية تجنبت القتال والمعارك، بعد ان عمد الى حيلة على الملك الايوبي في مصر الذي كان يواجه ثورات داخلية ضد حكمه، اقنعه بموجبها التنازل عن ادارة مدينة القدس له ضمن معاهدة سلمية لمدة 10 سنوات.
لكن المدينة سقطت في السنوات اللاحقة بأيدي الاتراك الخوارزميين، ثم المصريين ثم المغول الذين سلّموها الى المماليك.
وفي عهد السلطان العثماني سليمان القانوني، تم بناء اسوار المدينة، وصارت القدس عاصمة فلسطين عام 1517 وحصلت على ميزات استثنائية من قبل السلطان، ونعمت بالاستقرار والازدهار. كما نعمت فلسطين والقدس بسلام سياسي وديني طوال فترة الحكم العثماني حيث عاش المسلمون واليهود والمسيحيون بنغم اجتماعي فريد.

الاحتلال الثاني
بعد الحرب العالمية الاولى وضعت عصبة الامم "السامرة" عهدة بيد بريطانيا التي ضمتها الى ادارة الانتداب البريطاني لفلسطين. وفي عام 1948 تبنت الامم المتحدة خطة تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية، من أجل حل مأزق الدول الذي سببته محرقة هتلر حيث شرّدت اليهود في كل اوروبا. فارتأت الامم تشريد الفلسطينيين وبدأت افواج اليهود تصل من كل انحاء القارة الغربية والامريكتين،  ليحلّوا محل الفلسطينيين في اراضيهم وبيوتهم، ويعلنون دولة اسرائيل.
بعد عام 1948 انضمت السامرة ويهودا الى الاردن واطلق على المنطقة لقب الضفة الغربية.

الاحتلال الثالث
في عام 1967 احتلت اسرائيل الضفة الغربية والقدس مع اراض اخرى في مصر وسوريا.
وفي عام 1988 تنازلت الاردن عن الضفة الغربية الى منظمة التحرير الفلسطينية وانتقلت الادارة عام 1993 الى السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو على "بعض" اجزاء من "السامرة".

هذه قصة السامرة والقدس وفلسطين واسرائيل، فاذا كان اليهود ليسوا محتلين للسامرة وفلسطين، لانهم كانوا جزءا من النسيج السكاني، فإن اسرائيل بالطبع محتلة لتلك الاراضي.
لقد عاش العرب واليهود جنبا الى جنب طوال فترات التاريخ، بيد ان التاريخ شهد ايضا محاولات عديدة لليهود للسيطرة سياسيا وعسكريا على المنطقة، كلها خابت وتسببت باحتلالات مضادة.

فماذا يريد اعضاء الكونغرس الاميركي ان يشهدوا بعد ان شهدوا على الغاء فلسطين عام 1948 واحتلال الضفة الغربية عام 1967؟
هل يريدون ان يشهدوا زوال الشعب الفلسطيني بأكمله؟
وما هي التنازلات المؤلمة التي يتحدث عنها نتنياهو وهو يشير الى دولة فلسطينية ما. هو وحده يضع حدودها ويحدد سياستها ويختار سكانها؟

وهل هناك اكثر تألما من شعب يشهد شطب هويته والغائه من الوجود على فترات؟

وهل يعرف المشرّعون الاميركيون ماذا يعني نتنياهو ان القدس تبقى عاصمة اسرائيل الموحدّة؟ فليشرحوا لنا من فضلهم...
ومع ذلك فهم يصفقّون ويهللون.
غريب!

سامي الشرقاوي

19‏/05‏/2011

عزيزي اوباما: لا تكن رماديا وشاهدا "ما شافش حاجة"


كان الصراع الاممي في زمن الرئيس السابق للولايات المتحدة الاميركية جورج بوش الابن، صراعا مكشوفا، وكان رد الفعل الاقليمي السلبي واضحا بسبب كره بوش الشديد والمعلن للعرب والمسلمين بشكل خاص.
وهذا الكره الشديد والوضوح في سياسة الرئيس الاميركي الاسبق في الشرق الاوسط والانحياز الغير المشروط لاسرائيل في المنطقة، قابله سياسة اوضح من قبل ايران وحلفائها في المنطقة، الى حد الصراع المكشوف في العراق وايران وافغانستان، وما نتج عنه من بروز لحركات ومنظمات واحزاب دخلت على خط الصراع وباتت تشكّل هي ايضا قوّة لا يستهان بها في ميزان القوة العسكرية بين اميركا وحلفائها وبين (اعداء) اميركا وحلفائهم من جهة أخرى.
بينما يتبّع الرئيس الحالي للولايات المتحدة الاميركية سياسة الحذر، وكل همّه هو "النفاذ بجلد" الولايات المتحدة بسلام من منطقة الشرق الاوسط بعد أن ورّطها جورج بوش حتى العظم والنخاع، بأقل كلفة ممكنة شريطة ان لا يؤثّر ذلك على امن اسرائيل ولا يسبب بإضعافها. وهذا ما يؤكدّه اوباما بنفسه في افتتاحية خطابه اليوم، حيث افتخر بسحب 200 ألف جندي اميركي من العراق، وادّعى بأنه قضى على طالبان وسدد ضربة قاضية الى تنظيم القاعدة.
وسياسة الحذر هذه، سياسة ضعيفة لأنها لا ترهب اعداء اميركا ولا تفيد اصدقائها. لذلك "تنتفض" اسرائيل من وقت لوقت على المحاولات الاميركية لتثبيت نوع من السلام بينها وبين الفلسطينيين، كما وفي نفس الوقت "تقلق" الفلسطينيين الذين باتوا غير مقتنعين "براعي السلام"، فكيف حال بقية الدول العربية والاسلامية، التي ترى باراك أوباما رجلا إمّا "خبيثا" الى أقصى درجات الخبث، أو ضعيفا الى أقصى حدود الضعف.
وخير دليل على هذا الكلام هو الرد السريع من قبل الفلسطينيين والاسرائيليين على خطاب اوباما الاخير، اذ اعتبره الفلسطينيون كذر الرماد في العيون، ورفض الاسرائيليون فكرة العودة الى حدود 67 كما اقترح الرئيس الاميركي.
المشكلة في باراك أوباما، انه يجوز ان يكون صادقا الى اقصى حدود الصدق، وهذا الصدق في التعريف السياسي لا يكون فضيلة بقدر ما يكون كارثة على صاحبه وادارته، لأنه قد يكشف السياسية الحقيقية ويعرّضها الى خطر الالغاء الكلي.
واذا لم يكن تحرك الشعوب العربية في هذا الوقت من صنع الادارة الاميركية، او على الاقل نتيجة التأجيج الاميركي لاشعالها، فإن القلق الذي يساور الرئيس اوباما هو بمقدار القلق الذي يساور معظم الرؤساء والملوك والشيوخ في منطقة الشرق الاوسط ان لم يكن أكثر.
لا يمكن للرئيس أوباما ان يقول ان الشعب العربي المنتفض في الشرق الاوسط يستطيع رسم مستقبله بنفسه، ويعلن في نفس الوقت المساعدات المالية الضخمة الى حكومات مصر وتونس وهما البلدان اللذان انجزا الثورة ولكن لم يكتمل بعد نظام الحكم فيهما.
والسياسة الاميركية لها باع طويل في الانحياز الى سياسة التطرّف ودعم الانظمة البوليسية في المنطقة والعالم بشكل عام، لانه يسهّل لها السيطرة عليها، وتوجيهها حيث تريد وكيف تريد لانفاذ مصلحة معيّنة لها، بغض النظر ما اذا ما كانت تلك المصلحة تضر بمصالح شعوب اخرى، ولا يهم النتائج السلبية التي تنعكس على تلك الشعوب اذا كانت امنية او اجتماعية او اقتصادية، ولا تلتفت الى معاناة تلك الشعوب من فقر وخوف وجهل، فالولايات المتحدة لها ايضا منظمات حكومية اخرى تهتم بهذه الشؤون وتستطيع ان تعوّض معنويا او "ماديا رمزيا".
ولكن يظهر ان دعم الانظمة البوليسية غالبا ما ينقلب شرا على الولايات المتحدة نفسها، اذا ما ارادت التخلص لسبب ما من تلك الانظمة، او احجام قوتها، اذ تنقلب تلك الانظمة بسرعة البرق عليها وتصبح عبئا بدل ان تكون عونا.
ولهذا يبدو ان الرئيس الاميركي يحاول تبرير نتائج سياسة بلاده مع تلك الانظمة، عندما يقول ان التغيير سيكون سريعا في أماكن وتدريجي في اماكن اخرى بينما يتطلب وقتا في بعض المناطق. اذ أن لملمة الاخطاء وتصويبها سهلة في اماكن وصعبة في اماكن وتبدو مستحيلة في مناطق اخرى.
حقا يا سيد اوباما ان اللوم يقع على الغرب بعد نهاية الاستعمار في الشرق الاوسط، وان العداوة لاسرائيل هي العنصر الاساسي ليس فقط للخطابات بل ايضا للقلوب، تماما كما أن العنصر الاساسي في اسرائيل هو العداوة للعرب والفلسطينيين بشكل خاص، وتتجلى هذه العداوة ليس في الخطابات والقلوب فقط، بل تكون اوضح في الحروب.
وبما انك تشيد بوزيرة خارجيتك، فليتها تطلعك على مشاهد الاطفال القتلى في غزة وفي قانا لبنان، للاشارة فقط وليس للحصر. قبل ان تتحدث عن خوف الاسرائيليين من مقتل اولادهم في الباصات.
ليتها تشرح لك ان اصل المشكلة هي اغتصاب الشعب الفلسطيني بأكمله، وسلبه دولته، ومنذ ذلك الوقت والشعب الفلسطيني يعيش بالعراء بلا وطن.
وليتك تنظر مرة اخرى الى الانظمة العربية التي دعمتها سياسات بلدك بطريقة او باخرى مباشرة او بالواسطة، كيف تاجرت بالشعب الفلسطيني ودمه وقدره.
لا يمكنك ان تلوم الشعب الفلسطيني، الذي ورّطته الامم وذلّه الاهل قبل الاعداء.
وزيرة خارجيتك افتخرت بالامس ان بلادها اول البلدان التي اعترفت باسرائيل، فهلّا تسألها لماذا تنكر فلسطين والشعب الفلسطيني.
ان طموحات الشعوب في الشرق الاوسط والتي ذكرتها في خطابك اليوم، ليس فقط الديموقراطية والحرية، بل ان هذه الشعوب تريد ايضا العدالة في التعامل.
فسياسة الولايات المتحدة هي سياسة الكيل بمكيالين، واذا كنت تتكلم عن مصلحة الولايات المتحدة باستقرار الشرق الاوسط، فالاولى ان تلبّي ولو بالمبدأ ميزان العدالة في التعامل بين العرب واسرائيل. والاّ كيف تريد الاستقرار في الشرق الاوسط؟
انت تقول ان سياسة العنف والقمع لم تعد تجدي ولن تستمر، وهذا شيء جميل. بيد ان الحل لا يكون في حسن الخطاب، بل بالوضوح في الرأي والرؤية.
فلا يمكنك ان تكون ضبابيا، وشاهدا على ما تعانيه الشعوب في المنطقة، وشاهدا على القتلى الابرياء كل يوم، ثم تنظّر حلولا اساسها ايضا امن اسرائيل دون امن العرب، ووعودا بدعم الاصلاحات قبل دعم الارضية الصالحة للاصلاحات؟
ليتك يا سيدي الرئيس تتكلم عن حرمان الفلسطينيين من حقهم بالعيش بقدر ما تتكلم عن حرمان الاسرائيليين من حقهم بالعيش.
ليتك يا سيدي الرئيس تستطيع ان ترى ان دعم المصالحة بين الفلسطينيين من شأنه ان يوصل الى سلام حقيقي مع اسرائيل.
ليتك يا سيدي الرئيس تهتم بالشعوب العربية بقدر اهتمامك بالشعب الاسرائيلي.
ليتك يا سيدي الرئيس تبادر في لعب دور الحكم العادل، لأن ذلك من شأنه ان يحقن دماء ابرياء كثيرين يقتلون كل يوم في منطقة الشرق الاوسط كلها.
واذا اخترت ان تكون شاهدا فقط على كل ما يجري في المنطقة، فكن شاهدا أمينا، لانك لا تستطيع ان تكون رماديا وتقول "أنا شاهد ما شافش حاجة".
 سامي الشرقاوي

16‏/05‏/2011

حراك الشعوب العربية وقضية فلسطين


منذ فك الاشتباك بين سوريا واسرائيل في هضبة الجولان عام 1974، لم يحصل أي خرق أمني هناك، ونعمت تلك الجبهة بهدوء ملحوظ، ربما شجّع كل من اسرائيل وسوريا على عدم اقامة اجراءات امنية جدّية ومنها زراعة الالغام على الحدود، التي تعد من ابسط الاجراءات العسكرية التي تمنع اي خرق ارضي قد يحصل من الجهة "المعادية"، كالحاصل مثلا على الحدود الجنوبية اللبنانية مع شمال فلسطين المحتلة.
لذلك يبدو ان الشباب الذين "اقتحموا" الحدود الاسرائيلية عند جبهة الجولان، عرفوا مسبقا خلوّ الارض من اية الغام قد تنفجر بهم اذا ما تخطّوا السياج الشائكة وربما ان سبب وجود الغام كثيفة هو الذي منع الشباب الفلسطيني من "اقتحام" الحاجز الفاصل على الحدود بين بلدة "مارون الراس" اللبنانية وبين فلسطين المحتلة. والسؤال يطرح نفسه: لماذا زرع الجيش الاسرائيلي الالغام هنا ولم يزرعها هناك؟
يجوز ان "روتين" الهدوء الامني على هضبة الجولان طمأن الجيش الاسرائيلي، الذي تفاجأ بأن هذا الروتين قد يتغيّر بمتغيّرات السياسة الدولية والاقليمية.
فما هي النتائج السياسية التي ستسفر عن هذا الحراك العربي الفلسطيني في ذكرى نكبة فلسطين ضد اسرائيل؟
عندما صرخ نتانياهو ان هذه "الهجمة" تستهدف وجود اسرائيل وليس فقط المطالبة باسترجاع المناطق المحتلة، كان كلامه صحيحا لأنه يستشعر فعلا مثله مثل اي اسرائيلي بأن اسرائيل اقترفت الذنب الاكبر بالغاء وجود الدولة الفلسطينية وسلبها واغتصابها والحلول محلّها على الخريطة العالمية.
وأمّا على الصعيد العربي، قد يكون هذا المشهد الذي تكرر باقتحام "سلمي" للاراضي المحتلة، في كل من لبنان وسوريا وغزة والمحاولات التي جرت من قبل الشباب الحر على المعابر الفاصلة بين كل من مصر والاردن مع فلسطين المحتلة، هو تكملة للمشهد الجماهيري الذي انتفض "سلميا" على انظمته في محاولة مرّة لتغيير شامل للسياسات العربية الداخلية.
ويبدو ان الشباب العربي قد ملّ سياسات المراوحة الاقليمية والدولية في التعامل مع القضية الاساسية في الشرق الاوسط وهي قضية ازالة فلسطين واقامة اسرائيل.
والسياسات التي اتبعتها الانظمة العربية منذ نكبة فلسطين، ادّت الى تثبيت وتقوية اسرائيل، على حساب الشعب الفلسطيني المشرّد خاصة والشعوب العربية التي قمعتها انظمتها فالتهت بمآسيها ونسيت المأساة الكبرى التي حصلت في فلسطين.
ولعل هذه الصحوة التي فاجأت الجميع، هي رسالة الى جميع الدول الاقليمية والغربية والشرقية على السواء بأن الشعب الفلسطيني ومعه الشعوب العربية التي وجدت حديثا رداء الحرية، لا يعتمدون على انظمة شلت قدراتهم خلال السنوات المنصرمة، ولا على دول كبرى يوهمونهم بالبحث عن حلول غير موجودة من خلال مفاوضات عقيمة يعرفون مسبقا انها لا تؤدي الاّ الى نتيجة واحدة وهي تقوية اسرائيل والحفاظ على امنها.
لم يستطع اي نظام من الانظمة العربية منع الحراك الفلسطيني بالامس، فلم ينتظر الشباب الحر القاء الكلمات التي كانت مقررة من "مسؤولين" ولم يهتمّوا اصلا لسماعها.  وربما وجدت تلك الانظمة في هذا الحراك وسيلة لتمرير رسائل من خلاله تقوّي وضعها المهتريء داخليا وخارجيا، فاعتمدت سياسة دعم هذا الحراك من خلال عدم منعه، لتكسب بذلك عطفا داخليا وحذرا خارجيا.
لقد شعر الاسرائيليون بالخوف وقرئوا هذا الحراك الشعبي العربي الفلسطيني جيدا، بينما باقي الدول العربية لم يقرئوا فيه غير ما يمكنهم الاستفادة منه بتثبيت وضعهم الداخلي.
وهذا بالطبع نتيجة للسياسات المتراكمة التي اتبعتها الدول العربية والتي ادّت الى الاقتناع بأنه من غير المجدي محاربة الكيان الاسرائيلي، والاكتفاء بمكاسب من خلال صراع سياسي ضد اسرائيل، يستطيعون بواسطته تقوية انظمتهم في الداخل واطالة امد حياتها.
ما لم يكن بالحسبان ان تنتفض الشعوب على تلك السياسات تحت شعارالحرية.
والحرية في المنطقة العربية هي حالة شاملة تضم معها حرية الشعب الفلسطيني الذي هو دائما الرقم الصعب في كل المعادلات. لأنه ذنب جميع الامم على السواء في لعبة الامم.
بدأ الشعب الفلسطيني انتفاضة ضد قادته الفلسطينيين خاصة من فتح وحماس واجبرهم على المصالحة، والتوقف عن التلهي بصراعات داخلية لا تفيد الا اسرائيل.
هذا في داخل غزة والضفة الغربية.
وانتفض الشعب الفلسطيني من "مخيّماته" في لبنان وسوريا والاردن ومصر، وزحف لاختراق الحدود مع الكيان المغتصب، ليخبر بذلك كل القادة العرب دون استثناء بأنه بغنى عن خدماتهم وهو يريد أخذ حقّه بيده "سلميا". وهذه هي الرسالة التي فهمها الكيان الصهيوني فهما جيدا وخاف منها خوفا شديدا.
فكيف سترد اسرائيل على هذا الحراك الغير متوقّع؟
من خلال التجارب المتكررة، لا يستطيع احد ان يتوقع كيف ستتعامل اسرائيل مع حراك من هذا النوع، الا ان السياسة الاسرائيلية مبنية اساسا على استيعاب الامور، والرد بشكل مباشر او غير مباشر بواسطة عمل عسكري ما، او اجراءات تعسفية بحق الفلسطينيين.
لكن المراقب لا يستطيع الا ان يلاحظ حالة عامة من الخوف او اقله من القلق ينتاب الكيان الاسرائيلي ولأول مرّة خصوصا بعد ما شهدته الدول العربية من انتفاضات شعبية، والتي لا بدّ من أن تؤثّر سلبيا على السياسة العامة التي اتبعتها اسرائيل في منطقة الشرق الاوسط منذ استحداثها عام 1948.
فقد باتت الانظمة العربية التي حمت اسرائيل بشكل مباشر او غير مباشر مهددة بالانقراض، والانظمة التي ستحل محلها مجهولة الهوية الى الآن.
وحالة القلق هذه تشمل ايضا الدول الغربية المعنية بأمن اسرائيل وخاصة الولايات المتحدة الاميركية، التي لا تتعب ادارتها من محاولات استيعاب الانتفاضات الجارية في المنطقة العربية، لتجييرها وفق ارادة السياسة الاميركية في المنطقة والتي تقوم اصلا على حماية امن اسرائيل.
وصل الامر مع الولايات المتحدة الى حد التفاهم مع الاخوان المسلمين في مصر وسوريا، حول السياسة المستقبلية في كل من البلدين اذا ما نجحت الانتفاضة فيهما، وطبعا لا يمكن تجاهل الدور التركي الذي ساهم في ايجاد نقاط تفاهم بين اميركا والتيارين الاسلاميين المتشددين.
استمرار سياسة الغرب نفسها في المنطقة العربية القائمة على تقوية فريق ضد فريق آخر، مهددة بالفشل هذه المرة لأن الشعوب أصبحت هي الرقم الاصعب في المعادلات بعد ان كانت رقما لا يساوي اي شيء بالمعايير السياسية.
وليس متوقعا ان تؤدي محاولات افتعال ازمات طائفية وعرقية هنا وهناك الى اية نتيجة لأنها تفتقر الى ارضية مناسبة كالارضية التي كانت وما زالت في لبنان والعراق والتي خلقت حالات عدم استقرار امني وسياسي ادت بالنتيجة الى حكومات مبتورة او مشلولة.
غير ان الاصرار على خلق الفوضى الطائفية والعرقية في البلاد العربية، يقلق لأنها اذا ما نجحت وانتشرت ستؤدي حتما الى تفكيك المنطقة جغرافيا وديموغرافيا.
فهل هذا ما تطمح له دول الغرب؟
وهل لهذا أطلق نتنياهو صرخته بالامس خائفا من ازالة اسرائيل؟
واذا كان الحراك الشعبي الفلسطيني بالامس كان محطة مفاجئة في تطوّر الاحداث في المنطقة العربية، فما هي المحطة الثانية ومتى؟
سامي الشرقاوي

13‏/05‏/2011

سوريا بين دهاء الغرب وتشدّد العرب وقلق ايران


بغضّ النظر كيف ستنتهي الاحداث الداخلية في سوريا، فمن المؤكد أن سوريا بعد هذه الازمة ستكون غير سوريا ما قبل الازمة.
ومن المرجّح ان القيادة السورية ستتخطى هذه المرحلة وإن كان بفارق نقاط بسيطة لا تعطيها حسما ساحقا لمصلحتها، غير انها لا بدّ واقعة في أزمة إقليمية ودولية من الصعب الخروج منها من دون اصابات موجعة.
عندما بدأ الشعب الايراني انتفاضته الشهيرة في العام المنصرم، كان ذلك انذارا دوليا حقيقيا للقيادة الايرانية التي لم تقرأه جيدا واكتفت بقمعه دون تقديم اية اصلاحات حقيقية يطالب بها الشعب الايراني. ثم بدأت الحكومة الايرانية هجوما مضادا على المجتمع الدولي بدا ثأريا، بتصويب اهداف في منطقة الشرق الاوسط ضد سياسة الدول الغربية وفي مقدّمتهم اميركا. وبدأ هذا "الهجوم" بتمتين التحالف مع سوريا وحزب الله، ثم الاتفاق الثلاثي بين تركيا والبرازيل وايران بشأن برنامجها النووي، ثم دعم حركة حماس في غزة بشتى انواع الوسائل، وزيارة الرئيس احمدي نجاد الشهيرة الى لبنان، وتفشيل السعودية بمساعدة سوريا لاتفاق الـ س س الشهير.
كانت ايران تنطلق بكل عزم وقوة مع سوريا لتفشيل سياسة الغرب في منطقة الشرق الاوسط، فنجحت بتثبيت نوري المالكي في العراق بعد تقاطع مصالح مع اميركا بشأن بقائه على رأس حكومة عراقية. كما نجحت بفرض سياسة في العراق موالية للمصالح الايرانية، ساعدها بذلك ادارة باراك اوباما عن قصد او دون قصد باعلانها انسحاب الجيش الاميركي من العراق في غضون عامين، وسبقها في ذلك معظم الجيوش الاجنبية الاخرى بما فيها الجيش البريطاني.
ونجحت سوريا وايران ايضا بتمكين حلفائهما السياسيين في لبنان من الاطاحة بحكومة سعد الحريري حليف المملكة السعودة والموالي لسياسة الغرب في لبنان، وتمكين اكثرية نيابية لتكليف رئيس وزراء يشكّل حكومة تكون موالية لايران وسوريا على السواء وتقوّي حزب الله عسكريا في لبنان.
ولكن لم يكن في حسبان سوريا وايران ابدا ان تهب انتفاضات شعبية في معظم البلدان العربية بدأت بتونس الى ان وصلت الموسى الى ذقن القيادة السورية في سوريا نفسها.
ولم يكن في حسبان سوريا وايران ان تنقلب قطر انقلابا شاملا وبسرعة قصوى على سياسة سوريا وايران في الشرق الاوسط.
ولم يكن في الحسبان ابدا ان تقف دول الخليج العربية موقفا واحدا بما فيهم قطر، لحماية النظام في البحرين من مؤامرة انقلابية اتهموا ايران بتدبيرها بشكل مباشر.
ولم يكن في الحسبان ايضا ان تتم مصالحة منظمة التحرير وحماس وبهذه السرعة الفائقة بواسطة مصر التي ما تزال في بداية ترتيب بيتها بعد ثورة 25 يناير.
ولم يكن في الحسبان ابدا ان تتدخّل الجيوش الاجنبية ضد العقيد القذافي في ليبيا لاقالته من الحكم قصرا.
حاولت ايران ان تنسب الانتفاضات الحاصلة في المنطقة العربية الى صحوة اسلامية استلهمت ثورة الامام الخميني، بيد ان اصوات الجماهير المطالبة بأنظمة علمانية بددت تلك الاداعات.
وحاولت ايران التقرب من قيادة مصر الجديدة، فجاءها الجواب ان الوقت لم يحن بعد لمصر لتقيم علاقات ديبلوماسية شاملة مع ايران.
واتهمت البحرين والكويت ايران بتورط مباشر لزعزعة امن واستقرار البلدين، بعد خطاب زعيم حزب الله الشهير بدعم الانتفاضة الشعبية في البحرين.
ولم يتسنّى للقيادة السورية وسط كل ذلك من التقاط الاحداث المتسارعة في المنطقة، وتحليلها وبرمجتها لصالح سياستها، اذ فوجئت هي ايضا بمظاهرات عمّت المدن السورية طالبت بالاصلاحات ثم باسقاط النظام.
والمفاجأة الاكبر لسوريا كان تردد ايران وحزب الله من الدفاع بشكل فاعل ومباشر عن النظام السوري، الامر الذي انعكس سلبا على حزب الله، بعد احجام سوريا عن مد يد المساعدة له بتشكيل حكومة في لبنان كان يسعى الى تشكيلها لتمكين وضعه السياسي هناك لمواجهة عواصف قادمة نحوه اقلّها من المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري. اذ آثرت سوريا التريث بشأن الوضع في لبنان قبل الاقدام على تغطية حكومة لبنانية من لون سياسي واحد، لادراكها ان هكذا حكومة ستواجه حتما  رفضا دوليا هي بغنى عنه في هذه اللحظة بالذات.
اعربت الخارجية الايرانية بوضوح عن تسارع الاحداث الجارية في المنطقة، وسارعت الخطى الى ترميم علاقاتها مع الدول العربية وخاصة الدول المجاورة لايران. واصدرت بيانا خجولا تدعم فيه القيادة السورية وتدعوها به الى الاستجابة لمطالب الشعب السوري.
ولم يتضح الى الآن مدى تجاوب الدول العربية مع المسعى الايراني مما يزيد من قلق ايران الذي وصل الى ذروته وسط حديث عن خلافات في القيادة الايرانية حول سياسة ايران الخارجية واعتكاف الرئيس الايراني احتجاجا على تدخل المرشد الروحي في تفاصيل ادارة الشؤون الرئاسية.
في غضون ذلك حضنت اميركا والدول الغربية ثورة الشعب الليبي ضد العقيد القذافي، وتدخلّت عسكريا في ليبيا بطلب من الجامعة العربية هذه المرة، ما مهّد لها الطريق للتأثير على قرارات الحكومات الجديدة في كل من مصر وتونس بحكم تواجد هاذين البلدين على الحدود مع ليبيا.
ودعم الغرب قرار مجلس التعاون الخليجي قرار تدخلّع العسكري في البحرين لحماية نظام آل خليفة، وان كانت نسب الدعم متفاوتة بين الدعم الكلي والدعم الخفيف، بيد انه بالنتيجة دعم اكيد. كما دعم الغرب دول الخليج برسم مخرج سياسي للوضع القائم في اليمن، فأسقط بذلك ورقة ايرانية وسورية.
وللتأثير على مجريات الامور في المنطقة انضم الاردن الى دول مجلس التعاون الخليجي الذي ارسل بالتالي دعوة الى المغرب ايضا للانضمام اليه.
ويلفت الانتباه ذلك الاندفاع التركي نحو سوريا وتقديمها النصائح بالجملة والمفرق للقيادة السورية بنبذ العنف والاسراع في عجلة الاتصالات.
ونرى التباطوء المقصود من قبل الدول الغربية في التعامل مع القيادة السورية، ما يدعو الى التفكير عن السبب الذي وراء هذا التباطوء، ولا يجد المتابع فعلا غير ارجحية الضغط على القيادة السورية لتعديل سياستها في لبنان والعراق كي تسلم من مصير مثل مصير الانظمة في كل من مصر وتونس واليمن وليبيا.
وسط هذه الصورة القاتمة يجوز ان القيادة السورية تجد نفسها في حرب ذكاء مع الدول الغربية اكثر منها حربا داخلية كما تصورّها الحكومة السورية وتعطيها ابعادا انقلابية يشارك فيها المتشدّدين الاسلاميين.
ومن خلال الاعلام الغربي اليومي حول سوريا، يستطيع المتابع ان يقرأ ان مفاوضات تجري وراء اكمة الازمة بين سوريا والدول الغربية، يضطر خلالها المفاوض الغربي اذا ظهر عناد ما،  ان يرسل انذارا علنيا مثلا، مثل الانذار الذي وجّهه سفير اميركا من قلب سوريا والذي قال فيه ان على القيادة السورية وقف تسليح حزب الله في لبنان.
المعروف عن القيادة السورية منذ استلم الراحل حافظ الاسد سدّة الرئاسة،  قرائتها الجيدة للاحداث الجارية في منطقة الشرق الاوسط، وبراعتها في التفاوض مع الدول الغربية واقناع تلك الدول بأنها تحافظ على ظيط الامور في المنطقة من خلال ظبط التوازن بين اسرائيل والدول العربية، وظبط حركة حماس في غزة، وظبط حزب الله في لبنان، وظبط تهريب الاسلحة الى العراق.
الا ان ثلاثة مفارق اثّروا في الفترة الاخيرة على مصداقية سوريا أمام الغرب: مقتل رفيق الحريري، وحرب تموز بين اسرائيل وحزب الله وخروج حزب الله فريقا اقوى بعد هذه الحرب، والتحالف الوثيق مع ايران.
وباتت سوريا امام ثلاثة حقائق: تشدّد دول الخليج العربية ومعها الاردن ومصر والمغرب في التعامل معها، وخروج حماس من المعادلة السورية الايرانية، وانتفاضة الشعب السوري ضد النظام.
وهناك حقيقة رابعة وهي ظهور تركيا كلاعب أقوى في المنطقة باستطاعته لعب نفس الدور السوري او حتى لعب دورا أكبر.
تنحصر اللعبة السياسية اليوم بين سوريا والغرب في العراق، ويبدو ان ورقتها بدأت تضعف هناك بانضمام اكراد سوريا الى الانتفاضة الشعبية. ولبنان حيث يتوقّع ان يشهد هذا البلد صراعا فاصلا سينتهي بسيطرة فريق على آخر لفترة زمنية مقبلة.
ايران القلقة من تضعضع وضعها الاقليمي بعد تضعضعها الدولي، ربما تلعب ورقتها الاخيرة في لبنان بواسطة حزب الله كي تجبر سوريا الى اتخاذ قرار معها، أو تنكفيء لمصلحة اقليمية لها فيكون حزب الله بذلك ضحية صراع الجبابرة.
ويبقى ان نذكر الدهاء او المكر السياسي للدول الغربية وخاصة ادارة باراك اوباما، الذي يذكّرنا بقول المتنبي:
اذا رأيت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن ان الليث يبتسم.

سامي الشرقاوي

09‏/05‏/2011

ماذا تعني اللايدي كلينتون بقولها أمن اسرائيل حجر زاوية؟


بمناسبة ما يسمّى بالعيد الوطني الاسرائيلي، بعثت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون رسالة تهنئة قالت فيها ان الشرق الاوسط يشهد تغيّرا سريعا وسيظل أمن اسرائيل حجر زاوية في السياسة الخارجية الاميركية، وأنّ الولايات المتّحدة ستواصل السعي لتحقيق سلام شامل بين اسرائيل وجميع جيرانها.
كما تباهت اللايدي كلينتون بأن الولايات المتحدة كانت أول دولة تعترف بإسرائيل منذ 63 سنة، ورأت أن العلاقة الاميركية الاسرائيلية هي الضمانة لمستقبل أكثر اشراقا لافراد الشعبين الاميركي والاسرائيلي سواء من خلال الشراكة في مجال الامن أو في مجال التوسع الاقتصادي والتعاون التجاري.
فهمنا بعض هذا الكلام وعجزنا عن فهم البعض الآخر.
وقبل الخوض في شربوكة هذه المقولة، وتبيان ما فهمناه وما لم نفهمه، يجوز ابراز بعض الملاحظات التي قد تسهّل على السيدة كلينتون شرح ما لم نفهمه في رسالتها.
للتذكير فقط، فإن تاريخ العيد الوطني لاسرائيل هو أيضا تاريخ نكبة فلسطين عندما صدر قرار أممي بإزالتها عن الخريطة العالمية ووضع اسم اسرائيل مكان اسم فلسطين وتحديد الخط الاخضر الفاصل بين اسرئيل والدول العربية المجاورة.
وللتذكير أيضا ان خريطة اسرائيل التي رسمتها الامم عام 1948 وسّعتها اسرائيل عام 1967 بضم ما تبقّى من مساحات جغرافية تشير الى وجود أثر فلسطيني تاريخي وحضاري. ولتغطية هذا الحدث اعادت اسرائيل بمساعدة الامم المتحدة ابراز قطاع غزة والضفة الغربية الى الواجهة بحسب التقسيم السابق للمنطقة قبل عام 1948. فصار الاول عبئا على مصر وأصبحت الثانية عبئا على الاردن وضاع الفلسطينيون بين القديم والجديد والمستحدث.
صدقت الليدي كلينتون حين قالت ان الولايات المتحدة الاميركية كانت أول دولة تعترف بإسرائيل! ولكننا لم نفهم لماذا تتباهى باعترافها بدولة بنيت على نكبة شعب كامل بطرده من وطنه، وازالة وطن له تاريخ مؤثّر وحضارة عريقة كليا من الوجود!
نسأل بتجمّل عن قيمة الشعب الفلسطيني المسلوب الوطن والمشرّد والمنتهكة حريته والمستباحة حياته والمجهول مستقبله، بنظر اللايدي كلينتون.
ونسألها بتجمّل، كيف تتصوّر استمرار الشعب الفلسطيني في العيش تحت الجدار الامني الاسرائيلي، وقد شاهدنا عيّنة من نوعية العيش هذه؟ فهل تشاهد من "حجر زاويتها" مشهدا مختلفا عمّا نشاهده نحن؟
لذلك فالمرجو من اللايدي كلينتون شرح الاسباب التي أدّت بالسياسة الاميركية بتأييد اغتصاب وطن، والاعتراف بالمغتصب وتشريع اغتصابه؟
وكيف توازي وزيرة الديبلوماسية الاميركية بين كلامها هذا، وكلامها عن مواصلة الولايات المتحدة سعيها لتحقيق سلام شامل بين اسرائيل وجميع جيرانها؟ ومثال السلام الذي ترعاه الولايات المتحدة بين اسرائيل والفلسطينيين منذ اتفاقية أوسلو ولم يتوفر الى الآن شاهد حي على فشل هكذا نوعية من السلام. 
ولماذا تربط الوزيرة الانيقة بين مشهد التغيّر الجاري (سريعا في الشرق الاوسط)، وبين السلام الشامل مع إسرائيل؟ هل يعني هذا الكلام مثلا، أن الولايات المتحدّة وراء ما يجري من أحداث في بلدان الشرق الاوسط؟
وعلى ماذا استندت السيدة كلينتون بقولها ان العلاقة الاميركية الاسرائيلية هي الضمانة لمستقبل "أكثر اشراقا بين الشعبين الاميركي والاسرائيلي" إن كان في مجال الامن او التوسع الاقتصادي والتبادل التجاري؟
وما هو "مجال الامن" برأي الوزيرة النجيبة؟ وكيف ينعكس ذلك على الدول العربية المجاورة؟
وماذا تقصد الست كلينتون بأن أمن اسرائيل هو حجر زاوية في السياسة الخارجية الاميركية؟
الحقيقة ان المرء العادي لا يستطيع تفسير هذا الكلام الا من خلال ربطه بأحداث ما قبل عام 1948 في كل المنطقة العربية من المغرب الى شط العرب حيث أنّ الفوضى العارمة في المنطقة كانت من أهم الاسباب التي أدّت الى سلخ فلسطين وخلق اسرائيل.
يجوز ان الظروف تختلف بعض الشيء، فالفوضى الموجودة الآن لم تنشرها دول الاستعمار، بل هي انعكاس لوجود انظمة سكتت عن المشكلة الاساسية في وجود اسرائيل، باستثناء فترة تمرّد عبد الناصر على اللعبة الاممية والذي ادّى الى قضم اسرائيل الاجزاء المتبقية من الاراضي الفلسطينية عام 1967. وطبعا لا بد ان تعود سيناء الى مصر ليكتمل بذلك السيناريو الاممي.
واليوم تتهيأ منطقة الشرق الاوسط لفرز طائفي شيعي سني مسيحي وفرز عرقي عربي كردي ايراني تركي، وتذويب الاقليات المتبقية في الفرز المنوي تطبيقه.
وتلعب كل من ايران وتركيا دور الدولة القوية في المنطقة التي تسترجع امجادها القديمة، وتحلم بالسيطرة على بعض المناطق المجاورة، ولكن هذه المرة بتركيز أكبر على أن ترعى ايران المصلحة الشيعية وتركيا ترعى المصلحة السنية، بالاتفاق مع المملكة السعودية او بدون. ويشهد التاريخ ان تركيا وايران ساهمتا مساهمة فعّالة في حماية اليهود في المنطقة قبل وأثناء وبعد الحروب الصليبية.
فهل يعيد اليهود احياء تاريخ الاضطهاد الصليبي لهم في المنطقة وفي اوروبا؟ وما هو مصيرالمسيحيين في الشرق الاوسط وسط التغيّر السريع الذي تشير اليه سيدة الديبلوماسية! في ظل ما يقال عن شرق أوسط جديد، وما يدور من حديث عن طبخ دولة فلسطينية ما، لا نعرف بعد لونها وطعمها وحدودها!
فأين يكمن أمن اسرائيل أو حجر الزاوية في السياسة الاميركية وسط كل هذا التغيّر الذي تشير اليه السيدة كلينتون في المنطقة؟
وعن أية زاوية تتكلم السيدة الاولى للدبلوماسية؟
ليتها تشرح لنا، فلربما نفهم ونتفهّم. فنحن لا نعرف ولكن نتكهّن.
وكيف هو "السلام الشامل" بين اسرائيل وجميع جيرانها؟
هل يهم السيدة كلينتون ان يكون هذا السلام سلاما عادلا أم لا يهم؟
لا يوجد في تصريحها أي شيء يشير الى العدل!
أكثر ما يقلق في رسالة السيدة كلينتون قولها أن العلاقة الاميركية الاسرائيلية هي الضمانة لمستقبل أكثر اشراقا لافراد الشعبين الاميركي والاسرائيلي سواء من خلال الشراكة في مجال الامن أو في مجال التوسع الاقتصادي والتعاون التجاري.
فكيف يكون المستقبل أكثر اشراقا من خلال الشراكة في مجال الامن؟
وكيف تريد أميركا التوسع الاقتصادي مع اسرائيل وعلى حساب من؟
وهل التعاون التجاري بين البلدين يدخل ضمن منظومة السلام الذي تشير اليه وزيرة الخارجية بين اسرائيل والجوار؟
اذا كان هذا المقصود، فربما يعني ذلك ان الشراكة الاميركية الاسرائيلية ستسيطر حتما على التجارة مع دول الجوار، وربما هذا ما عنته بالتوسع الاقتصادي!
واذا كان هذا ما يجري التخطيط له فعلا، فانه يعني ان المستقبل المشرق سيكون لاميركا واسرائيل، ولا ندري كيف يكون مستقبل الدول الاخرى في المنطقة!
فهل نحن على أبواب نكبة أخرى في الشرق الاوسط، بحيث يتم سلخ مناطق عن مناطق، وايجاد مناطق ضمن مناطق على حساب مناطق؟ تحقيقا لأمن اسرائيل الذي هو حجر الزاوية في السياسة الخارجية الاميركية.
تقلقني كثيرا مقولة السيدة كلينتون بأنّ أمن اسرائيل هو حجر الزاوية في سياسة اميركا الخارجية، لأن ايجاد دولة اسرائيل من الاساس كان مكلفا جدا، وتطويرها كدولة قوية في المنطقة كان مكلفا جدا، والخوف الخوف من كلفة حجر الزاوية هذا وكيفية دفعها لحماية أمن اسرائيل.

سامي الشرقاوي


08‏/05‏/2011

الحروب الصليبية وما بعدها


ماضي، حاضر ومستقبل مهد الحضارات (7)

تابع .....

المحطة الثامنة عشرة
الحملات الصليبية

رأى بعض ملوك أوروبا والكنيسة الغربية أن بقاء مدينة القدس تحت السيطرة الاسلامية قد طال أمده، وحان الوقت لكي تنضم المدينة المقدّسة الى المرجعيات المسيحية وبخاصة كنيسة روما.
وسرعان ما سرت شائعات بأن مدينة القسطنطينية ستسقط بيد المسلمين، واذا ما حصل هذا الامر فسيكون مصير المسيحيين في الشرق الاوسط مهددا ومستقبلهم في المنطقة مجهولا. لذلك بدأ التنادي في أوروبا لحرب مقدّسة لتحرير القدس من أيدي المسلمين وانقاذ القسطنطينية.
فكرة الحرب المقدّسة كان وراءها بعض المتشدّدين من المسيحيين في اوروبا الغربية وخاصة فرنسا، عندما نادوا بالزحف المقدّس لتحرير القدس، وخاطوا صلبانا حمرا حول ستراتهم واطلقوا على أنفسهم لقب الصليبيين.
واثناء التحضيرات للحملة الصليبية الاولى عام 1096، كثرت أعمال العنف ضد يهود اوروبا وخاصة في فرنسا وألمانيا، بسبب تسريب شائعات بأن اليهود والمسلمين هم أعداء المسيح، وأن أعداء المسيح يجب محاربتهم الى ان  يتحوّلوا الى الديانة المسيحية. وكانت تلك الشائعات ترتكز على الوفاق الحاصل بين المسلمين واليهود في مدينة القدس وحصول بعض اليهود على مراكز مهمة في ادارات الدول الاسلامية المتعاقبة، مع أن المسيحيين في المنطقة كانوا ينعمون بمثل تلك المعاملة.
أما في بلاد الشام والاناضول وفلسطين، فقد كانت الحروب متواصلة بين الاتراك والسلاجقة للسيطرة على الاناضول وسوريا. وكانت المملكة السلجوقية مقسّمة الى دويلات منفصلة عن بعضها البعض.
وكانت مصر وفلسطين تحت سيطرة الحكم الفاطمي الشيعي، الذي فقد السيطرة على القدس عام 1073 بعد سيطرة السلاجقة عليها، الا ان الفاطميين استردوا المدينة عام 1098 وذلك قبل فترة قصيرة من وصول الصليبيين اليها.
وفي اوروبا، استقرت جماعات من سلالة الفايكينغ تدعى النورماند في جزء من فرنسا سمّي فيما بعد بـ "النورماندي". وكان النورماند يشتهرون بنزعتهم الروحانية وتطرّفهم المسيحي. وسرعان ما سيطروا على "صقلية" وجنوب ايطاليا وشكّلوا مملكتهم هناك، ثم غزوا "انجلترا" عام 1066 وأخضعوها لفرنسا مركز سلطتهم. وتوجّهوا ليسيطروا على بقية المناطق في المملكة البريطانية.
شجّعت النزعة الصليبية لدى النورماند الكنيسة لتطلق حملة نداء لحرب مقدّسة، تحت عنوان حماية القسطنطينية وتحرير القدس والاراضي المقدّسة من المسلمين. وفي عام 1096 شكّل جيش من النورماند بقيادة ثلاثة من كبار القادة هم روبرت وهيو وغودفري. وقاد ريمون سان غيل جيشا من جنوب فرنسا وايطاليا وزحفوا جميعهم نحو القدس ووصلوا الى القسطنطينية عام 1097 بعد رحلة طويلة واجهوا خلالها مشقّات جمّة.
حاصر الصليبيون مدين "نيسيا" (حاليا إيزنيك التركية) عاصمة السلاجقة الاتراك التي كان يحكمها السلطان أرسلان. وعاون الصليبيون في حصارهم مجموعة من الجنود البيزنطيين والاسطول البيزنطي الذي أحكم حصاره من البحر. واستسلمت "نيسيا" الى الامبراطور البيزنطي "اليكسيوس" الذي منع الصليبيين من نهب المدينة، الامر الذي تبعه عواقب وخيمة فيما بعد.
زحف الصليبيون نحو انطاكيا، غير ان السلطان ارسلان استطاع ان يجمع جيشه ويكمن لهم عند موقع "دوريلايوم". ولكن القائد ريمون سان غيل فاجأ الاتراك وأجبرهم على الفرار.
لم يكن كمين الاتراك ناجحا بيد انه أفقد الصليبيين امدادات الطعام والماء التي شحت بشكل كبير، الى جانب البرد القارس الذي داهم الجنود. عند ذلك قرر الصليبيون ضم مملكة "إيديسّا" (الرها) الارمنية التي كانت حدودها تمتد من "كيليكيا أو قلقيلية" في قلب الاسكندرون الى الفرات في وسط الاراضي الاسلامية، فأمّن الصليبيون بذلك خاصرة قوية لهم من الناحية العسكرية.
بدأ حصار "أنطاكيا" في أكتوبر عام 1097 وامتد كل فترة فصل الشتاء، حين بدأ الصليبيون يعانون مرة ثانية من شح في المواد الغذائية والتموينية ومياه الشرب، فمات كثير من الجند بسبب الجوع او العطش بما فيهم قادة عسكريين وروحيين وفضّل عدد منهم العودة الى ديارهم في اوروبا.
وجد الصليبويون ثغرة في جدار احد بروج انطاكية فتحها لهم ظابط ارمني اعتنق سابقا الدين الاسلامي وصار يحارب مع السلاجقة، فدخل الصليبيون المدينة ليفاجئوا بالقائد التركي "قيربوغا" أو "كريغا" المشهور ببراعته العسكرية، يحاصرهم من خارج المدينة.
نجح الصليبيون بفك الحصار عنهم والخروج من المدينة، غير انهم أمضوا شهورا بعدها يحاولون توحيد صفوفهم ليأخذوا بعد ذلك "انطاكيا" بقيادة "بوهيموند" ويزحف الباقون نحو القدس تحت إمرة ريمون سان غيل ووصلوا أسوار المدينة أوائل عام 1099.
كان حاكم القدس في ذلك الوقت "افتخار الدولة" الفاطمي، الذي قام بطرد جميع المسيحيين من المدينة وعزل الريف عن المدينة.
قاد بعض الكهنة مسيرة مشوا فيها حفاة وأنشدوا خلالها الاناشيد الدينية وحملوا صلبانا ورموزا مسيحية، وسار ورائهم الجيش الصليبي نحو المدينة في خطى بطيئة وكأنهم في موكب رسمي. وبعد ستة أيام استطاعوا اقتحامها واحتلالها.
دخل الصليبيون الى المسجد الاقصى وقتلوا من وجدوا فيه، ثم توجّهوا الى المعبد اليهودي الذي لاذ اليه يهود المدينة، فأحرقوه بمن فيه.
واستطاع "افتخار الدولة" ابرام اتفاق مع "سان غيل" أمن بموجبه رحيله مع حاشيته عن المدينة. وأعلن الصليبيون من كنيسة القيامة تأسيس مملكة القدس وتعيين "غودفري" ملكا روحيا عليها.
حاول الفاطميون استعادة القدس غير انهم فشلوا وتراجعوا الى مصر. وعاد معظم الجنود الصليبيين الى بلادهم بعد انتهاء الحملة بتحرير القدس.
حكم "غودفري" المدينة عاما واحدا وخلفه بعد موته شقيقه "بالدوين" ملك "إديسا" والذي كان اول من حمل لقب ملك القدس.
عمل الملك بالدوين على تأسيس فريقين من العسكر المتدينين: فرسان تامبلار وفرسان هوسبيتالر.
ونتيجة للحملة الصليبية الاولى، أسس الصليبيون دولا خاضعة لهم في اديسا وانطاكية وطرابلس في تركيا وسوريا وفلسطين وصارت تلك الدول حليفة لهم ضد اي عدوان من جيوش المسلمين.
عانى المسلمون من التغييرات الجديدة في المنطقة التي كان لها وقع ثقيل على مكاسبهم وسلطانهم، فتنادوا من مصر الى بغداد لمحاربة الصليبيين وطردهم، واستطاع صلاح الدين الايوبي بعد فترة وجيزة من استرجاع مدينة القدس وتوحيد جميع المناطق تحت راية المسلمين.

المحطة التاسعة عشرة

صلاح الدين الايوبي يسترجع القدس

كان فرسان تامبلار من خيرة جنود الصليبيين، وكانوا يتقدمون المعارك ليخترقوا صفوف الاعداء. وكانوا فوق ذلك فرقة مستقلة اداريا استطاعت خلق هيكلية مالية فذّة للجيش الصليبي المتواجد في المنطقة. وبرغم ان عقيدتهم تستند على الفقر الشخصي فقد سيطروا على ثروات طائلة تعدّت حدود التبرعات وارتكزت على اجتهاد منهم بخلق نظام مالي يسمح لهم بتسهيل الامور المالية للصليبيين والاستفادة من اموالهم.
كان فرسان تامبلار اول من اوجد نظام البنوك، حيث كان اغنياء اوروبا ونبلاؤها المشاركين في الحملات الصليبية، يودعونهم ثرواتهم لحين انتهاء مهماتهم في الحملات. وحصل فرسان تامبلار بذلك على ثروة طائلة من جراء خدماتهم "البنكية" التي طوّروها باصدار "سندات اعتماد" لحجاج المدينة المقدسة من اوروبا بحيث كان الحجاج يودعوهم مبالغ مالية في اوروبا لقاء سندات اعتماد، يصرفونها لدى وصولهم الى القدس.
وبدأ نفوذ فرسان تامبلار يطغى على باقي الفرق المسيحية، التي بدأت الخلافات تسيطر عليها حول ادراة شؤون المدينة المقدسة. في غضون ذلك كان المسلمون يجمعون قواهم وتمكن حاكم حلب او "زنغي حلب" المالك المنصور من احتلال "إديسا" الامر الذي حذى البابا "يوجين الثالث" من اصدار امر كنسي يدعو الى حملة صليبية ثانية.
وكما حصل خلال التحضيرات للحملة الاولى، فقد تعرض يهود اوروبا لمجازر خاصة في مناطق نهر الراين لرفضهم المساهمة المالية لانقاذ الارض المقدسة.
اراد الملك الفرنسي "لويس السابع"، ان تكون الحملة العسكرية منفصلة عن الكنيسة خصوصا بعد ان سلّم "يوجين الثالث" صليب الحملة الى الملك الالماني "كونراد الثالث" ليقود الصليبييين الى القدس.
وصل لويس الثالث قبل بقية ملوك اوروبا الى القسطنطينية واستقبله "رايموند بواتييه" الذي كان يتوقع ان يتوجها سويا نحو حلب التي تعتبر بوابة "إديسا". بيد ان الملك الفرنسي رفض وأصر على الذهاب الى القدس للحج ونأى بنفسه عن أية مشاركة عسكرية صليبية. ولكنه قتل مسموما قبل ان يصل الى المدينة المقدسة.
تجمّعت القوات الصليبية في داريا بالقرب من دمشق، وواجهوا هناك جيش المسلمين الذي اجبرهم على الانكفاء بمساعدة سلطان حلب "نور الدين" بقطعه الامدادات عن الجيش الصليبي، والقرار الذي اتخذه الصليبيون المحليون بعدم المضي بحصار دمشق والعودة الى القدس.
في عام 1135 حاصر الملك بالدوين مدينة عسقلان وتقدم نحو مصر بغية احتلال القاهرة.
اثناء ذلك بزغ نجم صلاح الدين الايوبي الكردي كقائد عسكري فذ، حيث لعب دورا بارزا في هزيمة الصليبيين في مصر وأسر قائد جيوشهم "هيو" حاكم القيسارية.
سار صلاح الدين بجيشه نحو الاسكندرية لحمايتها وبنهاية عام 1169 هزم الجيش الصليبي في دمياط.
بعد احكام سيطرته على مصر شن صلاح الدين حملة عسكرية شاملة وحاصر مدينة دير البلح التي كانت قاعدة عسكرية مهمة لفرسان تامبلار وفرسان هوسبيتالر الذين كانوا يستخدمونها لشن هجماتهم على الفاطميين.
توجهت فرقة من فرسان تامبلار من غزة للمساعدة في الدفاع عن دير البلح، لكن صلاح الدين تمكن من سحقهم واحتلال غزة ومهاجمة ايلات لتأمين ظهر جيوشه. ثم توجّه بعد ذلك لتدمير حصني الكرك ومونتريال (الشوبك) في صحراء القدس، وكان السلطان الدمشقي نور الدين يسانده بشن هجمات متواصلة على الصليبيين في سوريا لمنعهم من مساندة الصليبيين في فلسطين ومصر.
عندما توفي السلطان نور الدين عام 1174 خلفه ابنه الصالح اسماعيل الذي كان في الحادية عشرة من العمر، فتم ابعاده وسيطر على سوريا حفنة من القادة الذين ادّعوا الوصاية على السلطان الصغير. كان صلاح الدين في تلك الاثناء منهمكا بقمع تمرد النوبيين مع بعض الارمن في صعيد مصر، وحين تم له ذلك توجّه الى دمشق فدخلها وسط تكريم غير مسبوق من الدمشقيين بعودة ابن مدينتهم الذي نشأ وترعرع فيها. عيّن صلاح الدين أخاه تاج الدين حاكما على دمشق، وخرج ليسيطر على حماة وحلب بعد افشاله محاولة لاغتياله.
توجّه حاكم طرابلس الصليبي ريمون، لمواجهة صلاح الدين عند النهر الكبير شمال لبنان، لمنعه من التقدم جنوبا، بيد ان القائد المسلم فضّل غزو حمص واحتلال قلعتها.
بعد انتصاراته العسكرية العديدة، نصّب صلاح الدين نفسه ملكا، ولقي ذلك ترحيبا كبيرا من الخليفة العباسي في بغداد الذي أطلق عليه لقب سلطان مصر وسوريا.
عندما ارسل الصليبيون جيشا قويا لاحتلال حصن إدلب، اتخذ صلاح الدين من ذلك حجة لنقض المعاهدة القائمة بينه وبينهم وسار الى عسقلان (عروس سوريا) وأخذ في طريقه مدينتي اللد والرملة ووصل الى ابواب القدس.
أثناء محاصرته للقدس، طلب منه الملك بالدوين ان يسمح لفرقة من فرسان تامبلار للدخول الى عسقلان، غير انه فوجيء بمهاجمتهم له عند مدينة تل الجزر قرب الرملة. وكانت المفاجأة شديدة ضعضعت جيشه واضطرته الى التراجع للحدود المصرية.
عام 1178 قرر صلاح الدين مهاجمة الصليبيين مرة اخرى، فأخذ حمص وحماة وأسر الكثير من الصليبيين وامر بقطع رؤوسهم.
خطط الصليبيون لمفاجأة صلاح الدين في شرق مرتفعات الجولان، ولاحق الملك بالدوين بغباء جيش المسلمين، مغترا بانتصاره السابق عليه، لكنه مني بهزيمة نكراء عند مدينة القنيطرة. وفي السنة اللاحقة أقام بالدوين مركزا (مخفرا) عسكريا على طريق الشام لتحصين الممرعلى نهر الاردن، عرف بممر يعقوب أو بنات يعقوب وكان يسيطر بواسطته على سهل بانياس.
عرض صلاح الدين اموالا كثيرة على بالدوين لالغاء ذلك المركز باعتبار انه اهانة كبيرة للمسلمين، غير ان اصرار بالدوين على الرفض واصراره على ابقاء المركز جعلا صلاح الدين يقرر ازالة المركز بنفسه الذي كان يتحصّن به خيرة فرسان تامبلار، فدمّره وأسر العديد من الفرسان.
قبل صلاح الدين عام 1180 هدنة عرضها عليه الملك بالدوين، واستغل فترة الهدنة بقمع اعدائه في الداخل، فتوجه الى دمشق وحاصر بيروت وتمركز في وادي البقاع ثم توجه لمعالجة امور استجدت في منطقة ما بين النهرين.
في طريقه نحو الفرات، أخذ صلاح الدين إديسا، وسروج، والرقة، وقرقيسيا والنسيبين. واثناء محاصرته للموصل، وصلته رسالة ان الصليبيين وجّهوا سفنهم الى خليج العقبة وغزو المدن والقرى الواقعة على ساحل البحر الاحمر. فأمر قائد اسطوله لؤلؤة وهو من اصول ارمنية لفك حصار الصليبيين وتدمير سفنهم.
قطع الصليبيون طريق الحج الى مكة، وتواصلت اعتدائاتهم  على الحجاج المسلمين، فوجّه صلاح الدين اسطوله لحصار بيروت في رد منه على تهديد الصليبيين بمهاجمة مكة والمدينة.
حسم صلاح الدين الامر في معركة حطين، وكبّل الصليبيين هزيمة نكراء وكلل نصره باحتلال مدينة القدس عام 1187.
كانت معركة حطين معركة فاصلة في تاريخ الحملات الصليبية حيث احتل المسلمون بعدها جميع المدن الصليبية. وحين تمت السيطرة على مدينة القدس، جمع صلاح الدين اليهود فيها وطلب منهم استعادة ممتلكاتهم ومراكزهم في المدينة.
وكان لسقوط القدس صدى مدويا في اوروبا، فقرر ملك انجلترا ريتشارد الاول الملقب بقلب الاسد، قيادة حملة صليبية (ثالثة) فاحتل عكا وقتل فيها اكثر من 3000 مسلم. وردّ صلاح الدين بقتل كل الفرانكيين الذين كان قد اعتقلهم عند احتلاله للقدس.
تواجه الملكان في معركة "أرصف" حيث استطاع ريتشارد ان يهزم صلاح الدين الا انه لم يفلح باستعادة القدس.
ومع الوقت نشأت بين صلاح الدين وقلب الاسد علاقة مميزة بنيت على احترام متبادل، وتطوّرت الى حد ان عرض ريتشارد على صلاح الدين تزويج اخته "جون ملكة صقلية" من شقيق صلاح الدين وتكون مدينة القدس هدية الزفاف.
لمّا رفضت شقيقة الملك الانكليزي العرض، استطاع الملكان التوصل الى "اتفاق الرملة" عام 1192 الذي نص على ابقاء القدس بيد المسلمين شريطة فتح المدينة امام حجيج المسيحيين وتسهيل اقامتهم.
توفي صلاح الدين عام 1193 بعد فترة قصيرة من عودة ريتشارد قلب الاسد الى دياره.
بدأت الحملة الصليبية الرابعة بغزو القسطنطينية عاصمة البيزنطيين واقامة مملكة لاتينية تدين بولائها الى الكنيسة الغربية. الامر الذي ادى الى الانشقاق النهائي بين الكنيستين وشعور الاغريق بمرارة متناهية جرّاء ما اعتبروه خيانة عظمى خصوصا وان الحملة الصليبية الرابعة لم تتوجه مطلقا صوب القدس.
عام 1218 توجه جيش مختلط من المجر والنمسا وهولندا الى فلسطين لتحرير القدس. فتحالف معهم الملك السلجوقي وهاجموا الايوبيين في سوريا.
ثم توجهوا الى مصر واحتلوا ميناء دمياط، الا ان سلطان مصر الكامل اجبرهم على الانسحاب وتوصلّوا جميعهم الى هدنة 8 سنوات.
عام 1248 فشلت حملة الملك الفرنسي لويس الرابع لاحتلال دمياط. بيد ان الامبراطور الروماني فريدريك الثاني نجح بواسطة حيلة ديبلوماسية لسيطرة مؤقتة على مدينة القدس.
تزوج الامبراطور الروماني من ابنة الحاكم الاسمي لمملكة القدس، وابحر الى سوريا ثم قبرص ليتوجه من هناك الى مدينة عكا عاصمة مملكة القدس المقتطعة للمطالبة بعرشها.
ادّعى فريدريك ان حاكم قبرص جون ايبلين هو حاكم غير شرعي وطالبه بتسليم وقفه في بيروت الى مملكة القدس الذي هو ملكها. وانقسمت عكا في تأييدها لفريدريك، فرفض فرسان تامبلار دعمه مباشرة غير انهم ناصروه عندما وافق على عدم مهر اسمه على المستندات التي تحمل اوامر المهمات العسكرية.
عمل فريدريك على استمالة سلطان مصر الكامل، بعدم نقض الحلف الذي وقّعه مع اوروبا اثناء الحملة الصليبية السابقة وفي نفس الوقت كان يشن غارات متواصلة على الايوبيين في سوريا. وتحت بنود معاهدة ثانية لمدة عشرة سنوات اضافية، وافق سلطان مصر الذي كان يعاني من ثورات داخلية ضده، على التنازل عن القدس للفرانكيين. وسيطر فريدريك ايضا على الناصرة وصيدون وحيفا وبيت لحم. واحتفظ المسلمون بالسيطرة على جبل المعبد والمسجد الاقصى وصخرة القبة. وبقيت القلاع في شرق الاردن بأيدي الايوبيين.
في عام 1244 تقدّم المغول في الشام وفلسطين واخذوا القدس وسلّموها الى المماليك الذين تحالفوا معهم بعد انهوا العهد الايوبي في مصر. فعادت بذلك القدس الى المسلمين، وكانت اوروبا في تلك الاثناء باستثناء فرنسا مشغولة بصراعات داخلية.
استفرد الملك الفرنسي مستفيدا من الصراعات داخل اوروبا، بشن حملة صليبية اخرى، وحاول النزول في ميناء دمياط المصري، الا ان فيضان مياه نهر النيل منعه من ذلك لفترة ستة اشهر تقريبا.
استطاع الملك الفرنسي بمساعدة فرقة من فرسان تامبلار بمهاجمة مدينة المنصورة، فهزموا عند ابوابها على يدي القائد المملوكي القوي الظاهر بيبرس. افتدى الملك الفرنسي نفسه ورحل الى عكا التي كانت لا تزال واحدة من أقاليم الصليبيين في ارض كنعان.
عام 1267 اقنع شارلز اخاه الملك الفرنسي بخطة انتقام تعيد له هيبته، وتقضي الخطة باحتلال تونس اولا لتسهيل الهجوم على مصر من الجبهة الافريقية.
وصل لويس الى تونس عام 1270 غير ان حظه العاثر لم يخدمه ايضا هناك حيث مات معظم جنوده من حالات تسمم من مياه الشرب الملوثة، ومات هو بسبب التهاب في معدته، فتولى شقيقه بعده الحملة الصليبية وعمد الى التوصل الى مهادنة مع المستنصر سلطان تونس حصل بموجبها على تبادل تجاري حر مع تونس وضمان اقامة الكهنة والرهبان فيها.
عام 1271 توجه الامير الانكليزي ادواردز في حملة صليبية تاسعة لمساندة امير انطاكية وحاكم طرابلس، بمقاومة الظاهر بيبرس الذي احتل انطاكية عام 1268 وصار يهدد دولة طرابلس.
عقد الامير الانكليزي حلفا مع المغول ضد المسلمين الا ان الظاهر يبرس اوقع بهم هزيمة بالغة اجبرت المغول على التراجع الى ما وراء نهر الفرات. وتوصّل الامير الى اتفاق مع بيبرس الا ان هذا الاخير حاول اغتياله، فاضطر ادواردز الى الهروب الى عكا ومنها عاد الى وطنه.
في تلك الاثناء كان الملك ميشال الثامن يعيد احياء المملكة البيزنطية الامر الذي اغضب البابا مارتن الرابع  وأدّى بالصقليين الى مهاجمة القسطنطينية الا انهم سرعان ما تقهقروا وعادوا ادراجهم.
عام 1289 نجح السلطان قلاوون بتحرير طرابلس من الصليبيين والقضاء على المقاومة المسيحية. ثم توجّه الى عكا فاحتلها وانهى بذلك حصنا صليبيا منيعا.
وانتهت حقبة الحملات الصليبية التي دامت 208 سنوات عندما خسر الصليبيون جزيرة ارواد عام 1303 والتي كانت آخر معقل لهم.

المحطة التاسعة عشرة
الامبراطورية العثمانية
عندما اكتشف الرحالة البرتغالي فاسغو دي غاما طريقا ملاحية حول رأس الرجاء الصالح عام 1479، بدأت السفن الحربية البرتغالية تعترض السفن التي تحمل بضائع للحجاج المسلمين من الهند والبلاد الواقعة على البحر الاحمر. الامر الذي جعل السلطان المملوكي الغاوري سلطان مصر بالاتفاق مع الدولة الهندية غوجارات واليمن، على التهديد بتدمير كل مراكز العبادة المسيحية معتبرين ان ما تقوم به السفن البرتغالية تهديدا مباشرا لمكة.
ولكي يحمل البرتغاليون تهديد السلطان على محمل الجد، امر ببناء 50 سفينة حربية، وطلب من العثمانيين الاتراك مساعدته بخبرتهم الملاحية.
لاحقا اتهم العثمانيون السلطان المصري الذي بدأ يضعف جرّاء حروبه المتواصلة مع البرتغال، بتأمين ممر آمن للصفويين من سوريا الى البندقية وفتح مصر امام اللاجئين الصفويين.
وفي عام 1517 سقطت كل من مصر وسوريا على يد السلطان العثماني سليم الاول الذي انهى عهد المماليك، غير انه ابقى نخبة منهم ليحكموا مصر تحت سلطانه، وبذلك بقيت مصر دولة تابعة للدولة العثمانية.
أخذ العثمانيون مدينة القسطنطينية من البيزنطيين، وغيّروا اسمها الى اسطنبول عام 1453. وفي نفس العام وافق السلطان محمد الثاني مع البطريرك الارثوذكسي اغناديوس، على ابقاء الكنيسة الارثوذكسية تحت الحكم الذاتي واستملاكها لوقف اراضيها وممتلكاتها مقابل الاعتراف بالسلطة العثمانية عليهم. كانت موافقة الكنيسة الارثوذكسية سريعة بسبب العلاقات المتدهورة مع اوروبا الغربية. وذهب قول احد كبار اساقفتهم مثلا حين قال "طربوش السلطان ولا قبعة الكاردينال".

واستطاعت الامبراطورية العثمانية ضم جميع الاراضي التي كانت تابعة للبيزنطيين، لكنهم خسروا بعض المناطق في البلقان مثل سالونيك وكوسوفو ومقدونيا. الا ان السلطان محمد الفاتح الذي اشتهر بلقب "قيصر الروم" استرجعها لاحقا وضم اجزاء من شبه الجزيرة الايطالية الى مملكته.
وفي عهد السلطان العثماني سليمان القانوني احتل العثمانيون بلغراد والمجر ووصلت جيوشهم لتحاصر مدينة فيينا النمساوية.
وفي عام 1535 احتل العثمانيون مدينة بغداد، لتزيد سيطرتهم في بلاد ما بين النهرين، ويصبح لديهم مدخلا بحريا نافذا على الخليج الفارسي.
سيطر العثمانيون على معظم بلاد حوض البحر الابيض المتوسط، وحققوا انتصارات عديدة على الاساطيل التابعة لاوروبا الغربية وخاصة في تونس والجزائر، واستطاعوا تحرير المسلمين واليهود من القبضة المسيحية في اسبانيا وسالونيكا وقبرص.
احتل السلطان سليمان القانوني مدينة القدس التي شهدت في عهده ازدهارا وتطورا، وأعيد بناء الاسوار حول المدينة العتيقة كما أصبحت القدس عاصمة فلسطين.

يتبع .......

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات