- آلو ... بيروت؟
- من؟
- أنا لبنان – آه كم اشتقت اليك
- وأنا أيضا... لماذا غبت عني هكذا..
- غيّبوني غصبا عني..
- وأنا غيّروني غصبا عني..
- كيف غيّروك
- آلو .. لم أعد أسمعك
انقطع الخط.... وبانتظار معاودة المكالمة ... تذكّرت مع آلو بيروت أثناء اقامتي في لندن أيام الدراسة الجامعية، أنني صادقت فتاة انكليزية، وجدت يوماً في مكتبتها الموسيقية "اسطوانة" لأغنية "ألو بيروت" للسيدة صباح، قالت أنّها سمعتها في بيروت، فعشقتها وعشقت معها شوارع بيروت وأحيائها.
ولمّا التقيتها بعد سنوات، علمت أنّها احترفت الغناء ودعتني لحضور احدى حفلاتها الغنائية. وكم كانت دهشتي كبيرة حين استهلّت حفلتها باهداء خاص لي !!
أغنية " ألو بيروت من فضلك يا عينيي"، التي غنّتها بكل إتقان، وعزفتها الفرقة الموسيقية بكلّ دقّة. وغنّاها معها الجمهور بكلّ حماس، ممّا دلّ على أنه قد سمع هذه الأغنية من قبل وأحبّها وتجاوب معها.
لم تكن دموعي ودهشتي وقتئذ، بقدر الدموع والدهشة عندما رجعت الى بيروت بعد سنين عديدة، فلم أرى الشوارع ولم أرى الأحياء ولم أرى بيروت..
ضاعت المعالم، وضاع رونق هذه المدينة. فباتت كعروس حزينة، أخذوا منها زينتها، وسلبوها كلّ فساتينها الحلوة وأشيائها الحميمة.
أين بيروت الحبيبة المجنونة؟ أين بيروت التي قلبت كل كيان وشغلت كل تفكير وأوحت بكل إلهام؟
أين بيروت الرقيقة القوية؟ أين نهارها المعجوق وليلها الظريف؟ أين حدائق الفن والأدب؟ أين أسواقها التراثية؟ أين ملاهيها الصاخبة؟ أين ساحاتها؟ أين مقاهيها؟ أين مطاعمها؟ أين محلات الحلوى فيها؟
أين العجقة "النجقة" التي تجلب الرزقة؟ أين النفوس البريئة والوجوه الأليفة؟
و " يا حبيبي نحنا ولاد بلد"....
قعدت مع نفسي، واطلقت لذاكرتي العنان لتغوص في بحر الماضي القريب، و"تنبش" منه مشاهد من أيام زمان وعز ايام زمان.
تخيلتني أجلس في مسبح " السان ميشال" الذي كان يقع في الموقع الوسط من منطقة الاوزاعي في ضاحية بيروت الجنوبية، بين مسابح " الكوت دازور" و " السان سيمون" من جهة، و " الريفييرا" و" الساندز" من جهة اخرى. وكنت أعتز بتنّوع رواده، من سوّاح عرب وأجانب، وأناس عاديين وأولاد بلد طيّبين، من كل مذهب ودين. الى كبار مشاهير السياسة والفن والمجتمع والصحافة واهل الفكر والادب من عرب ولبنانيين. وكلّهم مغبوطين، فرحانين، في إلفة ومحبة منسجمين ... رزق الله.
ضاحية بيروت الجنوبية!!!
سواح عرب وأجانب!!!
مغبوطين، فرحانين!!!
كم تغيّر المشهد........
أخذني والدي من يدي وتجوّلنا في العاصمة "الفتاة"... آه يا بيروت من لم يستبيحك بعد؟
"نزلنا" الى مسبح "الاوندين" في محلة " الزيتونة"، وفوقه ملهى الكيت كات، الذي كان كارم محمود يغنّي فيه "سمرا يا سمرا"، ومحمد جمال بالقرب منه يغني في ملهى "منصور"، يصدح "بمواويله" ويطلب "حبيبة بنت 16 سني". ثم "تغدّينا" في مطعم كرم الملاصق الذي لم أشبع من مازاته الشهيه. وبعدها زرنا حانات وملاهي ومقاهي "الزيتونة" امتدادا الى "فونتانا" عين المريسة.
وفي اليوم التالي.. أخذني الى مقهى الحاج داود في "عين المريسة" "ليشرب" والدي هناك "نفس" "أرجيله عجمي"، ويراقبني وأنا "أغطس" في مسبح الجمل الذي يقع مباشرة تحت مقهى "الحاج داود".
ولمّا أحسست بنشاط متجدّد، توجّه بي الى شارع "اللنبي" وتوقّفنا لنأكل "لقمة فول" عند "الحاج السوسي"، وبعدها الى مبنى "ستاركو" الذي وضع أوّل سلّم كهربائي في الشرق الاوسط، فتمشّينا في أسواقه (أول أسواق مغلقة في الشرق الاوسط التي تسمى اليوم "Mall")، وقعدنا في مقاهيه.
ثم قصدنا ساحة البرج، ومررنا بمحلات :الصمدي" و"البحصلي" واشتهينا حلوياتهم التي سحرت الالباب واطلقت عنان الشعراء، وكاد قلبي يقفز فرحا لما وجدته من حركة دؤبة منتظمة وسائقوا سيارات الأجرة الى المصايف ينادون (عاليه، بحمدون، صوفر).
" تمشّينا" في الأسواق على جانب الساحة "فتفرّجت" على "سوق الذهب"، و"سوق مال القبّان"، و"سوق النورية"، و"سوق اللحّامين"، و"سوق السمك"، و"درج خان البيض" و"سوق الدجاج"، و"سوق الخضار"، وبائعي الحلويات والقطائف، وأفران بيروت بخبزها وكعكها الزكي الرائحة.
كما رأيت صالات السينما مصفوفة من "الاوبرا" وسينما "كريستال" بصالتها "المبردة" (والتكييف كان عبارة عن رش سطل ماء من حين لآخر بين ارجل الرواد "ليبوْردوا")، و"الريفولي" و"الامبير"، الى "شهرزاد" و"الأمير" و"الكابيتول"، وتوقّفنا هناك عند موقف "العسيلي" لسيارات الأجرة، وعجبت من نظام حركتها وادارتها.
وتطلّعت من هناك الى مسرح "التياترو الكبير" وقال لي أبي أن "كوكب الشرق" قد غنّت فيه.
ورأيت "قبالة " تمثال (رياض الصلح) قهوة "عسّور" ومطعم "صفصوف".
صعدنا قليلا من مفرق "العازرية" فرايت أيضا "سيارات "السرفيس" مصفوفة بانتظام على جانبي الطريق، صعودا مقابل ""مبنى صالحة"، كل سائق بدوره ينتظر رزقه.
"فرقنا" يسارا باتجّاه ساحة الدبّاس وشارع بشارة الخوري، فرأيت مسرح شوشو "الوطني"، ثم أخذنا طريق ساحة الشهداء، من خلف سينما "روكسي" وتوقّفنا عند بائع "النيفا"، وتابعنا حتى سينما "ديانا" ثم يسارا نحو ملهى "الباريزيانا" ومثيله "الاريزونا"، و "قطعنا" الشارع لنشرب من "كازوز" جلّول، (وكنت أحبّه بمذاق "التمر هندي").
ثم تمشّينا في أسواق "الطويلة" و"ايّاس" و"سرسق"، ورأيت "الدليل" الذي يقف على باب سوق الطويلة، الرجل الأمّي الذي يتكّلم كل لغات العالم، ويرشدك الى المحلات في الاسواق لقاء عمولة يأخذها من أصحاب تلك المحلات. وبين سوقي "اياس" و"الطويلة"، استرحنا عند "بركة العنتبلي"، وشربنا "كبّاية" من " الجلاّب" وأكلنا "كاسة" "قٌشطلية" عليها "كمشة" "جزرية" و"شويّة" "قطر" و "كم رشّة" من ماء زهر. ثم عرجنا على مقهى "الاوتوماتيك" ليشرب والدي "فنجان قهوة"، واستأذنته لأذهب الى محل "الجليلاتي" مقابل الاوتاماتيك، بعد أن اشتقت "لكاسة سحلب" من عنده عليها "رشّة" "قرفة".
تمشّينا نحو "باب ادريس" ومررنا بمقهى "سميراميس"، وبعدها قرّرنا الذهاب الى "الروشة" لنجلس في مقهى "الدولشي فيتا" يسامرنا شلّة معظمهم من الفنانين والصحافيين والنقاد. ولم يكن الحديث الا عن الثقافة والفن والترح والمرح – لأنه لم يكن هناك أي هم سياسي أو أمني، وكنّا نقضّي جزءا من الوقت لنقرر في أي نادي ليلي نسهر: في "الريفوليوشن"، ام كازينو"عصام رجّي"، ام نقضّيها فقط عشاء ومازات عند "اليلدزلار" او "الجندول"، ام على البساطة برأي "الصبوحة"، "فننزل" الى ذلك المطعم البسيط على "الجناح"، حيث يخدمك "أبو وجيه" مع كل أفراد العائلة، ويقدّمون لك المازات الشهية و"يقلون" لك السردين "البزري" والسمك، واذا كان ابو وجيه قد " توفّق" في رحلة الصيد يومها، يقدّم لك صحن عصافير على ذوقك، يأكله هو وتحاسب به أنت.
رحمك الله يا والدي. لم يعد شيئا مما ذكرته موجودا. وبقيت أنت في قلبي وخاطري.
رحمك الله يا والدي وأسعدك في جنان الخلد. فنحن هنا على الارض نعيش جحيما دائما.
رحمك الله يا والدي. وأنت المحظوظ الذي لم يشهد ما حلّ ببيروتك من بعدك. وأنا من بعدك في غيبوبة قسرية. توقّف قسري عن الحياة.
لا يمكن ان أصدّق ابدا انّنا احياء، بل شهداء أحياء. وهم يحاولون حتى محي ذاكرتنا.
ما زال كلامك يتردد في أذني وأنت تقول بعد حرب 1967 وبعد حرب 1973 : الله يستر العرب ويسترنا. ومع اشتداد الحرب الأهلية في لبنان كنت تقول: "الظاهر أنه سلّطنا على أنفسنا"
وبعد حرب 1982 كنت تقول " الظاهر قررّ أن يعاقبنا أيضا في لبنان"
ومع أنني بأشدّ الشوق اليك. بل بأشدّ الحاجة اليك. فأنا لا أريدك أن تعود لترى أنّ كلامك صحيح.
بل وتعدّى لبنان الى ما بعد بعد لبنان.
- آلو لبنان
- لا أستطيع أن أسمعك يا بيروت. إنّهم يشوّشون على الخط
- تقصد يدخلون على الخط... حاول أن ترجعني اليك
- سأحاول يا بيروت ... سأحاول
انقطع الخط ... ولم يعد هناك غير طنين يصم الآذان.
يا عيب الشوم!!!.
سامي الشرقاوي
www.samicherkaoui.blogspot.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق