22‏/06‏/2011

جار الله يجور على عبد الناصر


قرأت مقالا للسيد أحمد جار الله في السياسة الكويتية تحت عنوان جنس الملائكة والدم السوري.
في هذا المقال ينتقد الكاتب سياسة الرئيس السوري بشار الاسد وهذا من حقّه، وأنا أتابع كتاباته وآرائه، ويعجبني سرده الصحفي .
بيد أنّ احترامي وتقديري للكاتب، يحملانني على انتقاده بعد أن انتقد ايضا في مقاله الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ووضعه في خانة الرؤساء الذين لا يمتلكون القدرة على معالجة أمور شعوبهم، وذهب الى حدّ القول ان جمال عبد الناصر لعب على وتر استفزاز عاطفة الشعب وتوظيفها لمصلحة النظام، ووصف هذا النوع من التعاطي مع الشعب بأنه من أبشع مراحل استغلال الكوارث لتعزيز المجد الشخصي.
واستنتج الكاتب ان الوضع السوري الحالي يختلف عن وضع مصر عام 1967 حين وظّف عبد الناصر الهزيمة على الجبهة المصرية الاسرائيلية وخسارة الارض لمصلحة النظام بلعبة تقديم الاستقالة الى الشعب المصدوم والجريح ما ساعده على انقاذ نظامه من الانهيار.
أكرّر احترامي الكامل للاستاذ جار الله، لكنّي أرى أنّه جار جورا كاملا على الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وما يمثّله عبد الناصر من قومية عربية التي لولا أن ضيّعها المفترون، لكان حال العرب غير حالهم الذي نشهده اليوم وقد وصل الى الدرك الاسفل.
إن افتقاد العرب لقوميتهم، وتاريخهم وتراثهم أضاع هيبتهم وقلّل من احترام الغرب لهم، بل أكثر من ذلك، وجدت دول الغرب حالة كانت تائهة عنها، وهي أنّها باستطاعتها السيطرة على العرب وسياستهم من دون استعمارهم فعليا، وهذا أقوى أنواع الاستعمار.
لا يمكن غضّ النظر عن سلبيات متعدّدة رافقت جمال عبد الناصر إبّان فترة حكمه، ولا يمكن نكران فساد كثير من المسؤوليين الذين تعاقبوا في فترة حكمه.
الاّ أنه لا يمكن أيضا نكران قوة شخصية هذا الزعيم الذي لم يكن بحاجة الى بذل مجهود كبير كي يهيم شعبه بحبه، وتعشقه باقي الشعوب العربية من المحيط الى الخليج.
ولا يمكن تجاهل الرهبة التي ألقاها جمال عبد الناصر في قلوب أعداء الأمة العربية، فباتوا يحسبون ألف حساب قبل أن يقوموا بأي عمل ضد مصر.
ولا يجوز أن نظلم الرجل وهو الذي طرد الاستعمار البريطاني من مصر، وأعاد إيرادات قنال السويس الى خزينة الدولة المصرية، بعد أن كان البريطانيون يسرقونها يوميا.
ولا يصحّ أن نبخس الرجل حقه ولا نذكر انتصاره على العدوان الثلاثي عندما حاولت فرنسا وبريطانيا مع اسرائيل استرجاع قنال السويس بالقوة العسكرية.
لذلك فأنت يا سيد جار الله تظلم الرجل بقولك أنه كان يحتال على شعبه ليحبّه، وأنه كان يلعب على وتر العاطفة لتعزيز مجدا شخصيا له.
لو كان كلامك صحيحا لما مات عبد الناصر وفي جيبه بضعة جنيهات، وفي حسابه لدى المصرف ثروة لا تتجاوز 3000 جنيه لم يترك غيرها ميراثا لزوجته وأولاده.
فعن أي مجد تتكلّم يا سيد جار الله؟
ولو سلّمنا جدلا أن كلامك صحيح، وأن عبد الناصر احتال وتلاعب على شعبه كي يحبه ويكسب مجدا شخصيا، فكيف تفسّر لنا عشق الشعوب العربية الاخرى ومنها شعب الكويت الكريم لعبد الناصر.
لماذا أسمت دولا عربية مختلفة ساحات وشوارع بإسم جمال عبد الناصر؟
وهل لعب جمال عبد الناصر على عاطفة الشعوب العربية الاخرى، لينزلوا الى الشوارع بعد نكسة 1967 وبعد اعلان عبد الناصر تنحّيه عن الحكم، ليطالبوه بالرجوع عن قراره، ويتحمّلوا مسؤولية الهزيمة معه.
كلامك يا سيد جار الله لا ينقص الرجل شيئا من مجده وخلود زعامته، ولكنه يحط بقدْر الشعب المصري خاصة والشعوب العربية بشكل عام، لانّه وإن بطريقة غير مباشرة يصف هذه الشعوب بالسذاجة والانجراف وراء العاطفة حتى ملامسة البلاهة.
هل يعقل يا سيد جار الله ان تصل قدرة رجل واحد الى اللعب على عواطف شعوب بأسرها كي تحبّه وتكرّمه وتمجّده؟ طبعا لا يمكن لشخص واحد أن تكون له هذه القدرة ولو كان لديه جيش من المعاونين المخلصين. فما بالك عندما يكون معظم المسؤولين في فترة حكمه هم أعداءه الأقربين. ودليل ذلك محاولاتهم المتكررة لاغتياله أو الانقلاب عليه!
وأعود الى القومية العربية، لاكرر وأؤكّد أن عبد الناصر زرعها في قلوب الشعوب العربية، وأحيا فيهم انتمائهم الى قوميتهم، وأثار فيهم الحماس للدفاع عنها بشتى الطرق والوسائل.
وما محاولته وحدة الشعوب العربية الا من ضمن تعزيز القومية العربية، غير ان المفترين عليها من الداخل حاربوه وحاربوها وحاربوا فكرة الوحدة العربية قبل أن يحاربها الغرب والشرق، بما فيهم من كان على حلف أو صداقة سياسية مع الرجل.
وموت القومية العربية، أوقف نبض الشارع العربي، الى يوم أفاق في تونس ومصر وبدأ يطالب باسترداد حريّته وقوميته.
للأسف دخل جميع من يريد تجيير الحراك الشعبي لصالحه على خط الثورات العربية، فصار الاميركان ثوريون عرب، وصارت أوروبا ثورية عربية، وصارت ايران ثورية عربية، وربما روسيا والصين واميركا اللاتينية كلّهم باتوا ثوارا عربا.
تحرّك الجميع لكسب الثورة العربية الاّ جامعة الدول العربية التي لم نلحظ لها تحركّا سوى مطالبة مجلس الامن بالتدخل العسكري في ليبيا وانهاء النظام هناك.
للأسف دخل الغرب عسكريا في ليبيا ولم ينه النظام ولم يساعد الثوار الليبيين الاّ بالجزء اليسير وبالتدريج وفق هوىً سياسيا يريد الغرب أن يفرضه هناك.
وهذا ما يحصل تماما في سوريا واليمن ومن قبل في السودان وسيحصل في المغرب العربي، وسيحصل في ما تبقى من اراض فلسطينية يستطيع شعبها رفع العلم الفلسطيني.
وسيحصل أيضا في لبنان بنفس الزخم الذي يحصل في العراق وربما يمتد الى الخليج العربي ودليل ذلك المحاولات التي حصلت في البحرين.
هذا الواقع للأسف حاصل وسوف يحصل لأننا فقدنا قوميتنا العربية وصرنا ننادي بقوميات أخرى غريبة عن أصولنا وتقاليدنا وأعرافنا وتراثنا.
ربما عرفت جامعة الدول العربية خطأها فسكتت ... وهذا أفضل لها وللانتفاضات الشعبية في باقي الدول العربية.
ربما يا استاذ جار الله، لم يكن جمال عبد الناصر أحسن رئيس جمهورية في الوطن العربي، الاّ أنه بلا شك أقوى وأشرف زعيم عربي في التاريخ الحديث.
كما أننا لم نجد رئيسا حكم أي بلد في أمّتنا العريقة كان أحسن منه، أو قدّم لبلده مشروعا على مستوى مشروع السد العالي، أو أدخل الى ميزانية بلده ايرادات بنسبة ايرادات قنال السويس.

أحبت الشعوب العربية جمال عبد الناصر بقدر ما كرهته الانظمة الغربية والانظمة الحليفة لها في الساحة العربية.
ووثقت به الشعوب العربية بقدر ما حذرت منه اسرائيل.
وعندما اجتمع الغرب كله، والانظمة العربية الحليفة للغرب، وأعداؤه في داخل مصر، واسرائيل ضد جمال عبد الناصر خسر الحرب بخدعة قاتلة.
ولمّا لم ينته عبد الناصر بعد حرب الـ 67 واستطاع 100 مليون عربي ان يثّبتوا زعامته ولو خسر حربا، ليقودهم مرّة اخرى باصرار وعزم الى نصر مؤكّد، اجتمع الجميع مرّة أخرى عليه حتى مات الرجل.
ولكن بقي الزعيم!

والى الآن لم يستطع أي رئيس أو أمير أو شيخ أو ملك عربي جاء بعده أن يكسب جزءا صغيرا من ذلك الحب الجارف الذي تختزنه غالبية الشعوب العربية من أجيال عاصرته ومن أجيال جديدة لم تعرفه عن قرب، لجمال عبد الناصر.
لماذا؟
لسبب بسيط، هو انّ عبد الناصر كان صادقا مع نفسه ومع شعبه، وكان يجاهد بإسم القومية العربية، وبإسم كل فرد من أفراد الشعب المصري والسوري واللبناني والمغربي العربي والخليجي العربي والاردني والفلسطيني بغض النظر عن دينه ومذهبه وانتماءه الحزبي....

وأعود لأسأل أسئلة كنت سألتها من قبل:
هل نرى اليوم زعيما عربيا له هذه المصداقية؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا محررا من مرجعيته الحزبية أو الدينية أو المذهبية؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا يستطيع ان يعمل من دون ان يحسب ألف حساب أقليمي ودولي؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا يلقي خطبة يستمع اليها كل الشعب العربي دون استثناء؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا يتردد اسمه على ألسنة كل الجماهير العربية دون استثناء؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا تخفق له كل القلوب وتبتهج به كل الخوالج وتذرف من أجله كل الدموع؟
هل نرى زعيما عربيا على الاطلاق؟
أستطيع أن أجزم أننا وليومنا هذا لا نرى الا جمال عبد الناصر.

سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات:

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات