يكاد يكون خطاب السيد نصرالله الاخير يتمتّع بقدر كبير من استراتيجية سياسية غير مباشرة تحتمل تفسيرات مختلفة لسياسة حزب الله المستقبلية في لبنان، ويجوز ان يكون في نفس الوقت يتضمّن تلميحات عن سياسة ايرانية دفاعية او هجومية أو "تصالحية" في المنطقة العربية بدأ من لبنان مرورا بفلسطين المحتلة وسوريا لتشمل ايضا المملكة العربية السعودية.
فبعد أن اسهب السيد حسن نصرالله بذكر محاسن نظام الحكم في ايران في ظل ولاية الفقيه، وشرح بالتفصيل كيف يتم الحكم هناك، وكيف يكون الفصل بين السلطات، وبعد أن نوّه بالانتخابات الحرّة التي تجري دائما ويفوز فيها من يفوز بأكثرية "شعبية ساحقة"، وكيف ان الامام الخميني وضع نظاما دستوريا لا يستطيع الغرب اختراقه كما يحصل في باقي الدول، اقترح زعيم حزب الله أن يأخذ السياسيون في لبنان نفسا عميقا، ويجتمعون معا في مجلس النواب او الحكومة او حول طاولة الحوار ليتناقشوا في كيفية تطوير نظام الحكم في لبنان.
ثم اعترف نصرالله ان ما يجري من احداث في المنطقة العربية، والتي بدأت في السودان وقسّمته، وما يجري حاليا من محاولات لتقسيم اليمن وتقسيم العراق، هي محاولات خطيرة لخلق شرق أوسط جديد ترعاه وتشرف عليه الولايات المتحدة الاميركية وقال ان سوريا ليست بمنأى عن هذا التقسيم، واذا ما حصل فسوف يجري تقسيم السعودية ايضا.
وقال نصرالله ان لبنان بحاجة الى توافق وتلاقي واجماع، وليس الى غلبة فريق على آخر،لأنه لن تستطيع أي فئة ان تفرض سيطرتها على لبنان.
وأكّد فشل تجارب امن الميليشيات والادارات المحلية والكانتونات وبات الامن الذاتي لأي فريق عاجزا ومأزوما.
وفشل دستور ما قبل الطائف لأنه جاء نتيجة تسوية.
وفشل دستور الطائف لأنه جاء أيضا نتيجة تسوية.
وفشل اعتماد الآلات الطبيعية لتعديل الدساتير.
وفشل التوافق.
وفشلت الغلبة لفريق على فريق آخر.
وفشلت حكومات الاكثرية السابقة.
وفشل تأليف حكومة الاكثرية الحالية.
وفشل رئيس الحكومة السابق.
وفشل رئيس الحكومة المكلف.
وفشلت القيادات السابقة والحالية بتحمل مسؤلياتها.
وفشل التعاطي مع الامور في لبنان بمعزل عما يجري في المنطقة.
وفشل التعاطي مع الامور في لبنان وفق ما يجري في المنطقة.
وفشلت الى الآن مواجهة المؤامرة لتقسيم المنطقة.
وفشل التقليل من أهمية ما يجري في سوريا من احداث بغية تقسيمها.
وفشل العرب في استرداد فلسطين المغتصبة عام 48.
وفشل العرب مرة اخرى باسترداد اراضي 67 المحتلة بالقوة.
وبالنتيجة لم ينجح احد لا في لبنان ولا في فلسطين ولا في بلدان العرب اجمعين.
فقط نجحت ثورة الامام الخميني في ايران.
ونجح نظام حكم ولاية الفقيه.
ونجح النظام الايراني في معالجة الازمات والصمود أمام التحديات.
ونجح الشعب الايراني بالاستفتاء على هوية النظام بأكثرية ساحقة.
لم يأت السيد نصرالله على ذكر المعارضة في ايران ولا أشار الى قمعها من قبل السلطات ولا الى كيفية تصنيفها. ولكنه أكّد أن الديمقراطية فشلت في دول العالم كافة ونجحت في ايران!
صدق السيد نصرالله عندما قال ان شباب وشابات ايران يذهبون للمشاركة في المباريات العالمية في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب ويحصلون على اعلى الدرجات. بيد ان هذا حاصل في ايران منذ تاريخ الحضارة في ايران وليس فقط في زمن ولاية الفقيه.
كما انه منذ التاريخ برع العراقيون والمصريون والسوريون واللبنانيون وعرب بلاد الاندلس وشبه الجزيرة العربية بكافة العلوم وأوجدوا معادلات واختراعات علمية ما زالت تتبع وتدرّس الى الآن في كافة المدارس والجامعات العالمية. غير ان معظم هؤلاء العلماء بما فيهم العلماء في ايران، يعيشون قهرا من قبل انظمة بلادهم، أو حجرا أقامه الاستعمار الغربي عليهم ومنهم من فقد ومنهم من اغتيل ومنهم من هرب وتاه في بلاد الله الواسعة.
ولكن لماذا كل هذا الكلام؟
الحقيقة ان هناك عدّة تفسيرات، أهمّها أن زعيم حزب الله ربما يستبق الامور ويستخلص نتائج ويقترح معالجات أساسها الوفاق الوطني ما دام ليس هناك غلبة لفريق، لأن أي غلبة لفريق برأيه ستتقوقع وتبقى عاجزة ومأزومة. ويكاد السامع لا يستطيع الا ان يلاحظ ان نصر الله يقصد بكلامه حزب الله، لسبب بسيط انه هو الفريق الاقوى على الاقل ميدانيا وعسكريا في لبنان.
فلماذا هذا الكلام الآن؟
هذا السؤال يقودنا الى التفسير الثاني وهو شعور السيد نصر الله ان النظام السوري ربما بات بحكم المنتهي، وهو يريد ان يحفظ خط الرجعة في لبنان ويتصالح مع خصومه، بطرح تطوير النظام بنقاش دستوري مع لجنة منبثقة من مجلس النواب او الوزراء او حتى حول طاولة الحوار بعد احيائها. والسيد نصر الله يعرف تماما ان هذا الامر شرحه يطول وربما لذلك يطرحه لكسب مزيدا من الوقت حتى تتّضح أكثر معالم المرحلة الجديدة القادمة.
ولكن لماذا اسهب السيد نصرالله بشرح نظام ولاية الفقيه "الديمقراطي"؟
هذا السؤال يحتمل ثلاثة تفسيرات:
التفسير الأول ان زعيم حزب الله ربما يريد ان يشير الى أنّ النظام الايراني بعيد كل البعد عن الاحداث الجارية على الساحة العربية، فهو محصّن شعبيا وسياسيا وعسكريا ودينيا، ولذلك فمن غير المتوقع ان يجري عليه ما يجري على انظمة دول أخرى.
والثاني ان السيد نصر الله ربما يريد ان يقول ان النظام الايراني قادر على صدّ المؤامرات الاميركية والغربية، وردّها على المخطّطين لها، لذلك فهو يلمّح الى احتمال تقسيم السعودية وغيرها من الدول الحليفة للسياسية الاميركية.
والثالث يحتمل الاشارة الى ان النظام في ايران نظام ديمقراطي مرن وسلس يستأنس بتوجيهات الولي الفقيه، الذي ربما ينصح بإعادة النظر بسياسة ايران الخارجية، والعمل على تكريس هدنة مؤقّتة مع العالم العربي تحديدا والعالم الغربي عموما.
في كل الاحوال، يبقى الواقع الاهم، وهو ان حزب الله بات في موقع لا يحسد عليه. فبعد أن عمل الى خلق حالة نوعية في لبنان، شلّت الحركة السياسية والاقتصادية العامة. فهو غلب خصما ولم يهزمه، ودعم حليفا لم ينصره، وجذب فريقا لم ينفعه، وبات النظام السوري عبئا عليه، وفرّ منه الصديق القطري الذي كان يدعمه بالمال والاعلام لتجميل صورته في الداخل و الخارج.
وتكالب اصدقاؤه في الاكثرية الجديدة على المناصب، وفلت بعض المحسوبين عليه من الادبيات السياسية واطلقوا العنان لقاموس الرذالات اللغوية ضد أخصامهم. وبلغ حدّ التهوّر الكلامي عند بعضهم الى التهديد باحراق المنطقة من بحرها الى خليجها. وكلّ هؤلاء صنعهم حزب الله أو حماهم أو أفسح لهم مجال الكلام إمّا لغاية في نفسه وإمّا اكراما لسوريا وإما بالتنسيق مع ايران. لكن في المحصلة باتت الاوراق تتساقط من يد الحزب القوي، الذي ربما استنتج زعيمه ان ما زرعه من أخطاء وسط الفوضى المنظمة بات يحصده فشلا على كل المستويات.
لذلك قد يكون فشل حزب الله في لبنان يكرّس النتيجة النهائية التي أعلنها السيد حسن نصرالله في خطابه الاخير وإن بصورة غير مباشرة: لم ينجح أحد.
ويطرح السؤال الاخير نفسه.... ماذا بعد؟
يجوز أن السيد حسن قد أجاب على هذا السؤال، ويبقى ان يتضّح كيف سيتعامل خصومه في لبنان مع طرحه مبدأ التصالح ولم الشمل، وكيف سيحلل خصومه في المعسكر الغربي خطابه الجديد، والاهم ماذا سيكون رد فعل القيادة السورية على كلامه.
غير انه يجوز ان يكون لكلام السيد نصرالله تكملة، ولكن هذه المرّة من ايران.
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق