بات في حكم المؤكّد أن الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية مع سوريا قد بلورت مسودّة اتفاق شامل بين البلدين لظبط الايقاع اللبناني بين مختلف الاطراف المتنازعة في هذا البلد، ليتناغم والمسيرة السياسية العامة لمنطقة الشرق الاوسط في هذه الحقبة بالذات.
وتقول المصادر المقرّبة من السعودية وسوريا المتابعة، انّ بنود الاتفاق قد انجزت بالفعل وعرضت بتفاصيلها على رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري والامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وأكّدت انها نالت موافقتهما التامة.
كما أن ايران أعلنت موافقتها المسبقة على اتفاق س.س. ومباركتها له ودعمه في جميع المجالات. وقد حرصت ايران في الساعات القليلة الماضية على التأكيد أن تقوية العلاقات مع المملكة السعودية هي من أهم أولوياتها.
غير ان هذا الاتفاق يبقى سريا وغير معلن الى أن تكتمل ظروف اعلانه في وقت قريب، ولا يعرف تفاصيله غير عدد قليل جدا من الذين شاركوا في بنائه وصياغته.
لماذا؟
هنالك عدّة تحليلات، منها أن الاميركان طلبوا من القيادتين السورية والسعودية مهلة كي يستطيعوا تقويم الموقف الايراني من المفاوضات الجارية حاليا مع ايران بشأن ملفّها النووي. كما انهم يريدون لحكومة المالكي الجديدة في العراق ان تبصر النور ليتأكدوا بأن كل الاطراف ملتزمة بدعم حكومة التوافق (العراقي الاقليمي الدولي) في العراق.
ومنها أن فرنسا ترغب ايضا فسحة زمنية بسيطة لوضع الاتحاد الاوربي في جو المحادثات الاخيرة مع الرئيس السوري بخصوص لبنان، وتنسيق الجهود لمشاركة فعّالة خصوصا فيما يتعلّق بالوضع المسيحي في لبنان والعراق.
ومنها أن مصر بدأت مواكبة هذا الاتفاق لجهة دعمه وتقريب فرص المصالحة مع سوريا.
وفي هذا الشأن بدا ملفتا اعلان مصر في هذا الوقت بالذات عن اعتقال شبكة تجسس اسرائيلية لمراقبة شخصيات نافذة في مصر، وأن هذه الشبكة قد امتد نشاطها الى كل من سوريا ولبنان.
ماذا يعني كل هذا؟
أربعة فرضيات:
أولا: أنّ المدّعي العام للمحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق بجريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الاسبق رفيق الحريري، دانيال بلمار لم يتوصّل الى الآن لمعرفة الفاعل الحقيقي والمنفّذ لاتّهامه بجريمة الاغتيال، برغم كل التسريبات الاعلامية التي صدرت وتصدر عن ان القرار الظني المترقّب سيتّهم بعض افراد من حزب الله.
وقد أفادنا التاريخ بأن الاغتيالات السياسية التي أودت بحياة عدد من القادة والرؤساء، طوي التحقيق فيها وبقيت الحقيقة سرا مدفونا، وخير دليل على ذلك التحقيقات الغير مسبوقة في عملية اغتيال الرئيس الاميركي جون كينيدي منذ نحو 50 عاما، والتي لم تصل الى أي شيء ملموس حتى الآن.
ثانيا: أن الاطراف الاقليمية العربية ومعها ايران وتركيا قد توصلت كلها الى اقتناع ان المنطقة لا تتحمّل هزّة سياسية وطائفية سلبية قد تنتج في لبنان وبلاد أخرى بعد صدور قرار اتهامي لا يكون مبنيا على أدلة جنائية لا تقبل الشك.
وهذا تماما ما قاله الرئيس السوري بشار الاسد بأنه لا يمكن القبول بقرار اتّهامي لا يعتمد أدلة جنائية واضحة ودامغة.
ثالثا: اقتناع الاطراف المتنازعة في لبنان أن التحقيق الدولي في جريمة اغتيال رفيق الحريري ومع انها من كبرى الجرائم، لا يمكن ان يكون سببا لاشعال حرب من أي نوع كانت في لبنان.
وهذا تماما ما قصده السيد حسن نصر الله عندما أعلن ان المحكمة الدولية باتت وراء حزب الله، وأنه يسعى الآن لحماية البلد من أية فتنة، وما قصده سعد الحريري بأنه لا يقبل أن تهرق نقطة دم واحدة في لبنان بسبب قضية اغتيال والده.
رابعا: فشل اسرائيل بإقناع الاميركان بخربطة الاوضاع في لبنان وتأييد ضربة عسكرية اسرائيلية لشل قدرات حزب الله والضغط على الدولة اللبنانية بقبول قرار ظني يتهم حزب الله بغض النظر ما اذا كانت الادلة كافية ودامغة أم لم تكن.
لذلك فقد قرأنا العديد من الردود على تسريبات القرار الظني، ان هذا القرار ليس نهاية الامر، فالمسيرة طويلة وهنالك محاكمة واستئناف ونقض.
يعني يجوز ان يطول هذا الامر الى أبد الآبدين، وفي نفس الوقت يبقى حزب الله متّهما رئيسيا الى ان تثبت براءته، فتضعف بذلك شوكته ويكون تحت وطأة الملاحقة الدولية الدائمة.
وأغلب الظن أن الاميركان لم يقبلوا بالعرض الاسرائيلي، ردا منهم على رفض اسرائيل الخطة الاميركية لتجميد الاستيطان في فلسطين، وعرقلتها لمحادثات السلام التي ترعاها الولايات المتحدة.
فهل يمكننا أن نستنتج من هذا كله؟
1- ان "المحشور" الحقيقي في هذه الدوامة هو اسرائيل وليس حزب الله، بدليل انها غير قادرة تماما على وقف القوة العسكرية والسياسية للمقاومة والمتنامية بانتظام في لبنان.
2- أن الاميركان يعتمدون الآن سياسة "التطنيش".
فهم "يطنّشون" لأنهم باتوا عنصرا غير موثوق به لدى العرب وايران وتركيا وبقية دول العالم، خصوصا بعد تسريبات "ويكيليكس" الفاضحة.
يذكّرني هذا بمقولة " نزلت الحزينة الى المدينة لتفرح فلم تجد لها مكانا لتفرح".
وهم " يطنّشون" لأنهم لا يستطيعون دعم اسرائيل أكثر بعد أن "فهموا المغطس" الذي أوقعتهم به اسرائيل في المنطقة، وهم الآن بصدد التراجع عن الوجود المباشر في منطقة الشرق الاوسط وتقييم شامل لسياستهم فيها.
وهم "يطنّشون" لأنّهم باتوا مقتنعين ان أوروبا وبالأخص فرنسا وبريطانية، ليديها الخبرة السياسية الاقوى في المنطقة بحكم التاريخ والجغرافيا، فارتأوا تحريك الامور من وراء الستار لأن لعبة المصالح بين أميركا واوروبا بما فيها روسيا بإمكانها توصيل الامور الى ما يشتهي الجميع في الغرب من المنطقة، وبكلفة أقل.
هل يطول التطنيش الاميركي?
وهل سيبصر اتفاق س.س. النور؟
انشاء الله خير.
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق