ماضي، حاضر ومستقبل مهد الحضارات (7)
تابع .....
المحطة الثامنة عشرة
الحملات الصليبية
رأى بعض ملوك أوروبا والكنيسة الغربية أن بقاء مدينة القدس تحت السيطرة الاسلامية قد طال أمده، وحان الوقت لكي تنضم المدينة المقدّسة الى المرجعيات المسيحية وبخاصة كنيسة روما.
وسرعان ما سرت شائعات بأن مدينة القسطنطينية ستسقط بيد المسلمين، واذا ما حصل هذا الامر فسيكون مصير المسيحيين في الشرق الاوسط مهددا ومستقبلهم في المنطقة مجهولا. لذلك بدأ التنادي في أوروبا لحرب مقدّسة لتحرير القدس من أيدي المسلمين وانقاذ القسطنطينية.
فكرة الحرب المقدّسة كان وراءها بعض المتشدّدين من المسيحيين في اوروبا الغربية وخاصة فرنسا، عندما نادوا بالزحف المقدّس لتحرير القدس، وخاطوا صلبانا حمرا حول ستراتهم واطلقوا على أنفسهم لقب الصليبيين.
واثناء التحضيرات للحملة الصليبية الاولى عام 1096، كثرت أعمال العنف ضد يهود اوروبا وخاصة في فرنسا وألمانيا، بسبب تسريب شائعات بأن اليهود والمسلمين هم أعداء المسيح، وأن أعداء المسيح يجب محاربتهم الى ان يتحوّلوا الى الديانة المسيحية. وكانت تلك الشائعات ترتكز على الوفاق الحاصل بين المسلمين واليهود في مدينة القدس وحصول بعض اليهود على مراكز مهمة في ادارات الدول الاسلامية المتعاقبة، مع أن المسيحيين في المنطقة كانوا ينعمون بمثل تلك المعاملة.
أما في بلاد الشام والاناضول وفلسطين، فقد كانت الحروب متواصلة بين الاتراك والسلاجقة للسيطرة على الاناضول وسوريا. وكانت المملكة السلجوقية مقسّمة الى دويلات منفصلة عن بعضها البعض.
وكانت مصر وفلسطين تحت سيطرة الحكم الفاطمي الشيعي، الذي فقد السيطرة على القدس عام 1073 بعد سيطرة السلاجقة عليها، الا ان الفاطميين استردوا المدينة عام 1098 وذلك قبل فترة قصيرة من وصول الصليبيين اليها.
وفي اوروبا، استقرت جماعات من سلالة الفايكينغ تدعى النورماند في جزء من فرنسا سمّي فيما بعد بـ "النورماندي". وكان النورماند يشتهرون بنزعتهم الروحانية وتطرّفهم المسيحي. وسرعان ما سيطروا على "صقلية" وجنوب ايطاليا وشكّلوا مملكتهم هناك، ثم غزوا "انجلترا" عام 1066 وأخضعوها لفرنسا مركز سلطتهم. وتوجّهوا ليسيطروا على بقية المناطق في المملكة البريطانية.
شجّعت النزعة الصليبية لدى النورماند الكنيسة لتطلق حملة نداء لحرب مقدّسة، تحت عنوان حماية القسطنطينية وتحرير القدس والاراضي المقدّسة من المسلمين. وفي عام 1096 شكّل جيش من النورماند بقيادة ثلاثة من كبار القادة هم روبرت وهيو وغودفري. وقاد ريمون سان غيل جيشا من جنوب فرنسا وايطاليا وزحفوا جميعهم نحو القدس ووصلوا الى القسطنطينية عام 1097 بعد رحلة طويلة واجهوا خلالها مشقّات جمّة.
حاصر الصليبيون مدين "نيسيا" (حاليا إيزنيك التركية) عاصمة السلاجقة الاتراك التي كان يحكمها السلطان أرسلان. وعاون الصليبيون في حصارهم مجموعة من الجنود البيزنطيين والاسطول البيزنطي الذي أحكم حصاره من البحر. واستسلمت "نيسيا" الى الامبراطور البيزنطي "اليكسيوس" الذي منع الصليبيين من نهب المدينة، الامر الذي تبعه عواقب وخيمة فيما بعد.
زحف الصليبيون نحو انطاكيا، غير ان السلطان ارسلان استطاع ان يجمع جيشه ويكمن لهم عند موقع "دوريلايوم". ولكن القائد ريمون سان غيل فاجأ الاتراك وأجبرهم على الفرار.
لم يكن كمين الاتراك ناجحا بيد انه أفقد الصليبيين امدادات الطعام والماء التي شحت بشكل كبير، الى جانب البرد القارس الذي داهم الجنود. عند ذلك قرر الصليبيون ضم مملكة "إيديسّا" (الرها) الارمنية التي كانت حدودها تمتد من "كيليكيا أو قلقيلية" في قلب الاسكندرون الى الفرات في وسط الاراضي الاسلامية، فأمّن الصليبيون بذلك خاصرة قوية لهم من الناحية العسكرية.
بدأ حصار "أنطاكيا" في أكتوبر عام 1097 وامتد كل فترة فصل الشتاء، حين بدأ الصليبيون يعانون مرة ثانية من شح في المواد الغذائية والتموينية ومياه الشرب، فمات كثير من الجند بسبب الجوع او العطش بما فيهم قادة عسكريين وروحيين وفضّل عدد منهم العودة الى ديارهم في اوروبا.
وجد الصليبويون ثغرة في جدار احد بروج انطاكية فتحها لهم ظابط ارمني اعتنق سابقا الدين الاسلامي وصار يحارب مع السلاجقة، فدخل الصليبيون المدينة ليفاجئوا بالقائد التركي "قيربوغا" أو "كريغا" المشهور ببراعته العسكرية، يحاصرهم من خارج المدينة.
نجح الصليبيون بفك الحصار عنهم والخروج من المدينة، غير انهم أمضوا شهورا بعدها يحاولون توحيد صفوفهم ليأخذوا بعد ذلك "انطاكيا" بقيادة "بوهيموند" ويزحف الباقون نحو القدس تحت إمرة ريمون سان غيل ووصلوا أسوار المدينة أوائل عام 1099.
كان حاكم القدس في ذلك الوقت "افتخار الدولة" الفاطمي، الذي قام بطرد جميع المسيحيين من المدينة وعزل الريف عن المدينة.
قاد بعض الكهنة مسيرة مشوا فيها حفاة وأنشدوا خلالها الاناشيد الدينية وحملوا صلبانا ورموزا مسيحية، وسار ورائهم الجيش الصليبي نحو المدينة في خطى بطيئة وكأنهم في موكب رسمي. وبعد ستة أيام استطاعوا اقتحامها واحتلالها.
دخل الصليبيون الى المسجد الاقصى وقتلوا من وجدوا فيه، ثم توجّهوا الى المعبد اليهودي الذي لاذ اليه يهود المدينة، فأحرقوه بمن فيه.
واستطاع "افتخار الدولة" ابرام اتفاق مع "سان غيل" أمن بموجبه رحيله مع حاشيته عن المدينة. وأعلن الصليبيون من كنيسة القيامة تأسيس مملكة القدس وتعيين "غودفري" ملكا روحيا عليها.
حاول الفاطميون استعادة القدس غير انهم فشلوا وتراجعوا الى مصر. وعاد معظم الجنود الصليبيين الى بلادهم بعد انتهاء الحملة بتحرير القدس.
حكم "غودفري" المدينة عاما واحدا وخلفه بعد موته شقيقه "بالدوين" ملك "إديسا" والذي كان اول من حمل لقب ملك القدس.
عمل الملك بالدوين على تأسيس فريقين من العسكر المتدينين: فرسان تامبلار وفرسان هوسبيتالر.
ونتيجة للحملة الصليبية الاولى، أسس الصليبيون دولا خاضعة لهم في اديسا وانطاكية وطرابلس في تركيا وسوريا وفلسطين وصارت تلك الدول حليفة لهم ضد اي عدوان من جيوش المسلمين.
عانى المسلمون من التغييرات الجديدة في المنطقة التي كان لها وقع ثقيل على مكاسبهم وسلطانهم، فتنادوا من مصر الى بغداد لمحاربة الصليبيين وطردهم، واستطاع صلاح الدين الايوبي بعد فترة وجيزة من استرجاع مدينة القدس وتوحيد جميع المناطق تحت راية المسلمين.
المحطة التاسعة عشرة
صلاح الدين الايوبي يسترجع القدس
كان فرسان تامبلار من خيرة جنود الصليبيين، وكانوا يتقدمون المعارك ليخترقوا صفوف الاعداء. وكانوا فوق ذلك فرقة مستقلة اداريا استطاعت خلق هيكلية مالية فذّة للجيش الصليبي المتواجد في المنطقة. وبرغم ان عقيدتهم تستند على الفقر الشخصي فقد سيطروا على ثروات طائلة تعدّت حدود التبرعات وارتكزت على اجتهاد منهم بخلق نظام مالي يسمح لهم بتسهيل الامور المالية للصليبيين والاستفادة من اموالهم.
كان فرسان تامبلار اول من اوجد نظام البنوك، حيث كان اغنياء اوروبا ونبلاؤها المشاركين في الحملات الصليبية، يودعونهم ثرواتهم لحين انتهاء مهماتهم في الحملات. وحصل فرسان تامبلار بذلك على ثروة طائلة من جراء خدماتهم "البنكية" التي طوّروها باصدار "سندات اعتماد" لحجاج المدينة المقدسة من اوروبا بحيث كان الحجاج يودعوهم مبالغ مالية في اوروبا لقاء سندات اعتماد، يصرفونها لدى وصولهم الى القدس.
وبدأ نفوذ فرسان تامبلار يطغى على باقي الفرق المسيحية، التي بدأت الخلافات تسيطر عليها حول ادراة شؤون المدينة المقدسة. في غضون ذلك كان المسلمون يجمعون قواهم وتمكن حاكم حلب او "زنغي حلب" المالك المنصور من احتلال "إديسا" الامر الذي حذى البابا "يوجين الثالث" من اصدار امر كنسي يدعو الى حملة صليبية ثانية.
وكما حصل خلال التحضيرات للحملة الاولى، فقد تعرض يهود اوروبا لمجازر خاصة في مناطق نهر الراين لرفضهم المساهمة المالية لانقاذ الارض المقدسة.
اراد الملك الفرنسي "لويس السابع"، ان تكون الحملة العسكرية منفصلة عن الكنيسة خصوصا بعد ان سلّم "يوجين الثالث" صليب الحملة الى الملك الالماني "كونراد الثالث" ليقود الصليبييين الى القدس.
وصل لويس الثالث قبل بقية ملوك اوروبا الى القسطنطينية واستقبله "رايموند بواتييه" الذي كان يتوقع ان يتوجها سويا نحو حلب التي تعتبر بوابة "إديسا". بيد ان الملك الفرنسي رفض وأصر على الذهاب الى القدس للحج ونأى بنفسه عن أية مشاركة عسكرية صليبية. ولكنه قتل مسموما قبل ان يصل الى المدينة المقدسة.
تجمّعت القوات الصليبية في داريا بالقرب من دمشق، وواجهوا هناك جيش المسلمين الذي اجبرهم على الانكفاء بمساعدة سلطان حلب "نور الدين" بقطعه الامدادات عن الجيش الصليبي، والقرار الذي اتخذه الصليبيون المحليون بعدم المضي بحصار دمشق والعودة الى القدس.
في عام 1135 حاصر الملك بالدوين مدينة عسقلان وتقدم نحو مصر بغية احتلال القاهرة.
اثناء ذلك بزغ نجم صلاح الدين الايوبي الكردي كقائد عسكري فذ، حيث لعب دورا بارزا في هزيمة الصليبيين في مصر وأسر قائد جيوشهم "هيو" حاكم القيسارية.
سار صلاح الدين بجيشه نحو الاسكندرية لحمايتها وبنهاية عام 1169 هزم الجيش الصليبي في دمياط.
بعد احكام سيطرته على مصر شن صلاح الدين حملة عسكرية شاملة وحاصر مدينة دير البلح التي كانت قاعدة عسكرية مهمة لفرسان تامبلار وفرسان هوسبيتالر الذين كانوا يستخدمونها لشن هجماتهم على الفاطميين.
توجهت فرقة من فرسان تامبلار من غزة للمساعدة في الدفاع عن دير البلح، لكن صلاح الدين تمكن من سحقهم واحتلال غزة ومهاجمة ايلات لتأمين ظهر جيوشه. ثم توجّه بعد ذلك لتدمير حصني الكرك ومونتريال (الشوبك) في صحراء القدس، وكان السلطان الدمشقي نور الدين يسانده بشن هجمات متواصلة على الصليبيين في سوريا لمنعهم من مساندة الصليبيين في فلسطين ومصر.
عندما توفي السلطان نور الدين عام 1174 خلفه ابنه الصالح اسماعيل الذي كان في الحادية عشرة من العمر، فتم ابعاده وسيطر على سوريا حفنة من القادة الذين ادّعوا الوصاية على السلطان الصغير. كان صلاح الدين في تلك الاثناء منهمكا بقمع تمرد النوبيين مع بعض الارمن في صعيد مصر، وحين تم له ذلك توجّه الى دمشق فدخلها وسط تكريم غير مسبوق من الدمشقيين بعودة ابن مدينتهم الذي نشأ وترعرع فيها. عيّن صلاح الدين أخاه تاج الدين حاكما على دمشق، وخرج ليسيطر على حماة وحلب بعد افشاله محاولة لاغتياله.
توجّه حاكم طرابلس الصليبي ريمون، لمواجهة صلاح الدين عند النهر الكبير شمال لبنان، لمنعه من التقدم جنوبا، بيد ان القائد المسلم فضّل غزو حمص واحتلال قلعتها.
بعد انتصاراته العسكرية العديدة، نصّب صلاح الدين نفسه ملكا، ولقي ذلك ترحيبا كبيرا من الخليفة العباسي في بغداد الذي أطلق عليه لقب سلطان مصر وسوريا.
عندما ارسل الصليبيون جيشا قويا لاحتلال حصن إدلب، اتخذ صلاح الدين من ذلك حجة لنقض المعاهدة القائمة بينه وبينهم وسار الى عسقلان (عروس سوريا) وأخذ في طريقه مدينتي اللد والرملة ووصل الى ابواب القدس.
أثناء محاصرته للقدس، طلب منه الملك بالدوين ان يسمح لفرقة من فرسان تامبلار للدخول الى عسقلان، غير انه فوجيء بمهاجمتهم له عند مدينة تل الجزر قرب الرملة. وكانت المفاجأة شديدة ضعضعت جيشه واضطرته الى التراجع للحدود المصرية.
عام 1178 قرر صلاح الدين مهاجمة الصليبيين مرة اخرى، فأخذ حمص وحماة وأسر الكثير من الصليبيين وامر بقطع رؤوسهم.
خطط الصليبيون لمفاجأة صلاح الدين في شرق مرتفعات الجولان، ولاحق الملك بالدوين بغباء جيش المسلمين، مغترا بانتصاره السابق عليه، لكنه مني بهزيمة نكراء عند مدينة القنيطرة. وفي السنة اللاحقة أقام بالدوين مركزا (مخفرا) عسكريا على طريق الشام لتحصين الممرعلى نهر الاردن، عرف بممر يعقوب أو بنات يعقوب وكان يسيطر بواسطته على سهل بانياس.
عرض صلاح الدين اموالا كثيرة على بالدوين لالغاء ذلك المركز باعتبار انه اهانة كبيرة للمسلمين، غير ان اصرار بالدوين على الرفض واصراره على ابقاء المركز جعلا صلاح الدين يقرر ازالة المركز بنفسه الذي كان يتحصّن به خيرة فرسان تامبلار، فدمّره وأسر العديد من الفرسان.
قبل صلاح الدين عام 1180 هدنة عرضها عليه الملك بالدوين، واستغل فترة الهدنة بقمع اعدائه في الداخل، فتوجه الى دمشق وحاصر بيروت وتمركز في وادي البقاع ثم توجه لمعالجة امور استجدت في منطقة ما بين النهرين.
في طريقه نحو الفرات، أخذ صلاح الدين إديسا، وسروج، والرقة، وقرقيسيا والنسيبين. واثناء محاصرته للموصل، وصلته رسالة ان الصليبيين وجّهوا سفنهم الى خليج العقبة وغزو المدن والقرى الواقعة على ساحل البحر الاحمر. فأمر قائد اسطوله لؤلؤة وهو من اصول ارمنية لفك حصار الصليبيين وتدمير سفنهم.
قطع الصليبيون طريق الحج الى مكة، وتواصلت اعتدائاتهم على الحجاج المسلمين، فوجّه صلاح الدين اسطوله لحصار بيروت في رد منه على تهديد الصليبيين بمهاجمة مكة والمدينة.
حسم صلاح الدين الامر في معركة حطين، وكبّل الصليبيين هزيمة نكراء وكلل نصره باحتلال مدينة القدس عام 1187.
كانت معركة حطين معركة فاصلة في تاريخ الحملات الصليبية حيث احتل المسلمون بعدها جميع المدن الصليبية. وحين تمت السيطرة على مدينة القدس، جمع صلاح الدين اليهود فيها وطلب منهم استعادة ممتلكاتهم ومراكزهم في المدينة.
وكان لسقوط القدس صدى مدويا في اوروبا، فقرر ملك انجلترا ريتشارد الاول الملقب بقلب الاسد، قيادة حملة صليبية (ثالثة) فاحتل عكا وقتل فيها اكثر من 3000 مسلم. وردّ صلاح الدين بقتل كل الفرانكيين الذين كان قد اعتقلهم عند احتلاله للقدس.
تواجه الملكان في معركة "أرصف" حيث استطاع ريتشارد ان يهزم صلاح الدين الا انه لم يفلح باستعادة القدس.
ومع الوقت نشأت بين صلاح الدين وقلب الاسد علاقة مميزة بنيت على احترام متبادل، وتطوّرت الى حد ان عرض ريتشارد على صلاح الدين تزويج اخته "جون ملكة صقلية" من شقيق صلاح الدين وتكون مدينة القدس هدية الزفاف.
لمّا رفضت شقيقة الملك الانكليزي العرض، استطاع الملكان التوصل الى "اتفاق الرملة" عام 1192 الذي نص على ابقاء القدس بيد المسلمين شريطة فتح المدينة امام حجيج المسيحيين وتسهيل اقامتهم.
توفي صلاح الدين عام 1193 بعد فترة قصيرة من عودة ريتشارد قلب الاسد الى دياره.
بدأت الحملة الصليبية الرابعة بغزو القسطنطينية عاصمة البيزنطيين واقامة مملكة لاتينية تدين بولائها الى الكنيسة الغربية. الامر الذي ادى الى الانشقاق النهائي بين الكنيستين وشعور الاغريق بمرارة متناهية جرّاء ما اعتبروه خيانة عظمى خصوصا وان الحملة الصليبية الرابعة لم تتوجه مطلقا صوب القدس.
عام 1218 توجه جيش مختلط من المجر والنمسا وهولندا الى فلسطين لتحرير القدس. فتحالف معهم الملك السلجوقي وهاجموا الايوبيين في سوريا.
ثم توجهوا الى مصر واحتلوا ميناء دمياط، الا ان سلطان مصر الكامل اجبرهم على الانسحاب وتوصلّوا جميعهم الى هدنة 8 سنوات.
عام 1248 فشلت حملة الملك الفرنسي لويس الرابع لاحتلال دمياط. بيد ان الامبراطور الروماني فريدريك الثاني نجح بواسطة حيلة ديبلوماسية لسيطرة مؤقتة على مدينة القدس.
تزوج الامبراطور الروماني من ابنة الحاكم الاسمي لمملكة القدس، وابحر الى سوريا ثم قبرص ليتوجه من هناك الى مدينة عكا عاصمة مملكة القدس المقتطعة للمطالبة بعرشها.
ادّعى فريدريك ان حاكم قبرص جون ايبلين هو حاكم غير شرعي وطالبه بتسليم وقفه في بيروت الى مملكة القدس الذي هو ملكها. وانقسمت عكا في تأييدها لفريدريك، فرفض فرسان تامبلار دعمه مباشرة غير انهم ناصروه عندما وافق على عدم مهر اسمه على المستندات التي تحمل اوامر المهمات العسكرية.
عمل فريدريك على استمالة سلطان مصر الكامل، بعدم نقض الحلف الذي وقّعه مع اوروبا اثناء الحملة الصليبية السابقة وفي نفس الوقت كان يشن غارات متواصلة على الايوبيين في سوريا. وتحت بنود معاهدة ثانية لمدة عشرة سنوات اضافية، وافق سلطان مصر الذي كان يعاني من ثورات داخلية ضده، على التنازل عن القدس للفرانكيين. وسيطر فريدريك ايضا على الناصرة وصيدون وحيفا وبيت لحم. واحتفظ المسلمون بالسيطرة على جبل المعبد والمسجد الاقصى وصخرة القبة. وبقيت القلاع في شرق الاردن بأيدي الايوبيين.
في عام 1244 تقدّم المغول في الشام وفلسطين واخذوا القدس وسلّموها الى المماليك الذين تحالفوا معهم بعد انهوا العهد الايوبي في مصر. فعادت بذلك القدس الى المسلمين، وكانت اوروبا في تلك الاثناء باستثناء فرنسا مشغولة بصراعات داخلية.
استفرد الملك الفرنسي مستفيدا من الصراعات داخل اوروبا، بشن حملة صليبية اخرى، وحاول النزول في ميناء دمياط المصري، الا ان فيضان مياه نهر النيل منعه من ذلك لفترة ستة اشهر تقريبا.
استطاع الملك الفرنسي بمساعدة فرقة من فرسان تامبلار بمهاجمة مدينة المنصورة، فهزموا عند ابوابها على يدي القائد المملوكي القوي الظاهر بيبرس. افتدى الملك الفرنسي نفسه ورحل الى عكا التي كانت لا تزال واحدة من أقاليم الصليبيين في ارض كنعان.
عام 1267 اقنع شارلز اخاه الملك الفرنسي بخطة انتقام تعيد له هيبته، وتقضي الخطة باحتلال تونس اولا لتسهيل الهجوم على مصر من الجبهة الافريقية.
وصل لويس الى تونس عام 1270 غير ان حظه العاثر لم يخدمه ايضا هناك حيث مات معظم جنوده من حالات تسمم من مياه الشرب الملوثة، ومات هو بسبب التهاب في معدته، فتولى شقيقه بعده الحملة الصليبية وعمد الى التوصل الى مهادنة مع المستنصر سلطان تونس حصل بموجبها على تبادل تجاري حر مع تونس وضمان اقامة الكهنة والرهبان فيها.
عام 1271 توجه الامير الانكليزي ادواردز في حملة صليبية تاسعة لمساندة امير انطاكية وحاكم طرابلس، بمقاومة الظاهر بيبرس الذي احتل انطاكية عام 1268 وصار يهدد دولة طرابلس.
عقد الامير الانكليزي حلفا مع المغول ضد المسلمين الا ان الظاهر يبرس اوقع بهم هزيمة بالغة اجبرت المغول على التراجع الى ما وراء نهر الفرات. وتوصّل الامير الى اتفاق مع بيبرس الا ان هذا الاخير حاول اغتياله، فاضطر ادواردز الى الهروب الى عكا ومنها عاد الى وطنه.
في تلك الاثناء كان الملك ميشال الثامن يعيد احياء المملكة البيزنطية الامر الذي اغضب البابا مارتن الرابع وأدّى بالصقليين الى مهاجمة القسطنطينية الا انهم سرعان ما تقهقروا وعادوا ادراجهم.
عام 1289 نجح السلطان قلاوون بتحرير طرابلس من الصليبيين والقضاء على المقاومة المسيحية. ثم توجّه الى عكا فاحتلها وانهى بذلك حصنا صليبيا منيعا.
وانتهت حقبة الحملات الصليبية التي دامت 208 سنوات عندما خسر الصليبيون جزيرة ارواد عام 1303 والتي كانت آخر معقل لهم.
المحطة التاسعة عشرة
الامبراطورية العثمانية
عندما اكتشف الرحالة البرتغالي فاسغو دي غاما طريقا ملاحية حول رأس الرجاء الصالح عام 1479، بدأت السفن الحربية البرتغالية تعترض السفن التي تحمل بضائع للحجاج المسلمين من الهند والبلاد الواقعة على البحر الاحمر. الامر الذي جعل السلطان المملوكي الغاوري سلطان مصر بالاتفاق مع الدولة الهندية غوجارات واليمن، على التهديد بتدمير كل مراكز العبادة المسيحية معتبرين ان ما تقوم به السفن البرتغالية تهديدا مباشرا لمكة.
ولكي يحمل البرتغاليون تهديد السلطان على محمل الجد، امر ببناء 50 سفينة حربية، وطلب من العثمانيين الاتراك مساعدته بخبرتهم الملاحية.
لاحقا اتهم العثمانيون السلطان المصري الذي بدأ يضعف جرّاء حروبه المتواصلة مع البرتغال، بتأمين ممر آمن للصفويين من سوريا الى البندقية وفتح مصر امام اللاجئين الصفويين.
وفي عام 1517 سقطت كل من مصر وسوريا على يد السلطان العثماني سليم الاول الذي انهى عهد المماليك، غير انه ابقى نخبة منهم ليحكموا مصر تحت سلطانه، وبذلك بقيت مصر دولة تابعة للدولة العثمانية.
أخذ العثمانيون مدينة القسطنطينية من البيزنطيين، وغيّروا اسمها الى اسطنبول عام 1453. وفي نفس العام وافق السلطان محمد الثاني مع البطريرك الارثوذكسي اغناديوس، على ابقاء الكنيسة الارثوذكسية تحت الحكم الذاتي واستملاكها لوقف اراضيها وممتلكاتها مقابل الاعتراف بالسلطة العثمانية عليهم. كانت موافقة الكنيسة الارثوذكسية سريعة بسبب العلاقات المتدهورة مع اوروبا الغربية. وذهب قول احد كبار اساقفتهم مثلا حين قال "طربوش السلطان ولا قبعة الكاردينال".
واستطاعت الامبراطورية العثمانية ضم جميع الاراضي التي كانت تابعة للبيزنطيين، لكنهم خسروا بعض المناطق في البلقان مثل سالونيك وكوسوفو ومقدونيا. الا ان السلطان محمد الفاتح الذي اشتهر بلقب "قيصر الروم" استرجعها لاحقا وضم اجزاء من شبه الجزيرة الايطالية الى مملكته.
وفي عهد السلطان العثماني سليمان القانوني احتل العثمانيون بلغراد والمجر ووصلت جيوشهم لتحاصر مدينة فيينا النمساوية.
وفي عام 1535 احتل العثمانيون مدينة بغداد، لتزيد سيطرتهم في بلاد ما بين النهرين، ويصبح لديهم مدخلا بحريا نافذا على الخليج الفارسي.
سيطر العثمانيون على معظم بلاد حوض البحر الابيض المتوسط، وحققوا انتصارات عديدة على الاساطيل التابعة لاوروبا الغربية وخاصة في تونس والجزائر، واستطاعوا تحرير المسلمين واليهود من القبضة المسيحية في اسبانيا وسالونيكا وقبرص.
احتل السلطان سليمان القانوني مدينة القدس التي شهدت في عهده ازدهارا وتطورا، وأعيد بناء الاسوار حول المدينة العتيقة كما أصبحت القدس عاصمة فلسطين.
يتبع .......