قبل كتابة هذا المقال قضيت معظم وقتي وعلى مدى عدة أيام أراقب التعليقات التي ترد على صفحات تويتر وفايسبوك، بما يخص الاحداث الجارية في المنطقة العربية، ووصلت الى يقين أن أجهزة مخابرات عديدة تتصارع فيما بينها بشكل منظم وأحيانا بشكل غير منظم، وتتداخل مع نشطاء عاديين لتضفي على اجواء النقاش حالات جديدة معظمها حالات سلبية، تنعكس على أرض الواقع السياسي لهذا البلد أو ذاك.
معظم المشتركين الذين على تويتر والفايس بوك ليس لديهم ملفات حقيقية، والمعلومات الشخصية على صفحاتهم هي معلومات وهمية.
يجوز أن بعض النشطاء يخشون من ملاحقة ما من أنظمة بلادهم، ولكن هؤلاء يسهل معرفة كونهم أشخاصا حقيقيين، لأن طريقة تدوينهم صادقة وواقعية، أما الطابور الخامس على تويتر والفايس بوك، فبرغم تمويهاتهم المختلفة، فإنهم مكشوفون للمراقب بشكل جلي خصوصا عندما يستعمل أحدهم عدة حسابات يسرد عليها جميعا نفس الاسلوب، ولكن للأسف فإن غالبية الناس لا تدرك هذه التمويهات وتنجرف مع الكلمة والاشاعة.
صحيح أن تويتر وفايس بوك أسهما بنشر ثورة تونس ومصر، بيد أن الصحيح أيضا أن أجهزة مخابراتية مختلفة دخلت على خط الثورتين بواسطة الوصلات السريعة نفسها، بقصد الافشال وعدم تحقيق الشعبين التونسي والمصري الانجازات التي يتوخونها.
ثورة الشعب الليبي مختلفة، اذ أن الوصلات السريعة لم تقدر أن تخترق الثورة بنجاح كامل، واختار حاكم ليبيا مواجهة دامية مع شعبه، فكان البديل لعزله تحالف عسكري دولي، الذي أخذ وقتا طويلا قبل عقد العزم على نصرة الثوار، ولكن هذه النصرة ما زالت مبهمة لخلاف الانصار على القيادة السياسية التي من شأنها أن تؤثر على مستقبل ليبيا الجديدة.
والامر نفسه يكاد يحصل في اليمن، و رغم أن الجيش يحاول أن يأخذ بزمام الامور هناك، لكن الوضع العشائري يهدد بانقسام الجيش أو انقسام اليمن كما ألمح الرئيس علي صالح بالامس، حيث قال أن الخوف من إنقسام اليمن الى اربعة أقسام وليس قسمين. كيف؟ يبدو ان جزءا من هذا اللغز مع الحوثيين وهم زيديون من أصول شيعية ويسيطرون على بعض من القسم الشمالي في اليمن، أما الاجزاء الاخرى فهي موزعة بين علي صالح وبعض العشائر وتنظيم القاعدة. لماذا القاعدة؟ يبدو ان ذلك من ضمن توازن القوى، والا كيف نفسر ما ورد من أنباء أن تنظيم القاعدة سيطر عسكريا على مدينة جعار جنوب اليمن؟
السودان استبق كل هذا بتقسيم البلاد، التي أصبحت قسمين مسلم في الشمال ومسيحي في الجنوب، واللافت أن المعارك التي اشتعلت بعد التقسيم، خمدت فجأة عندما استعرت معارك ليبيا وتأججت الخلافات في اليمن.
والانتفاضة في البحرين دخلت فيها اللعبة المخابراتية بامتياز حتى استفحلت وانكشفت، فتحوّلت الانتفاضة الى صراع شيعي سني برغم كل ما يقال عكس ذلك، والدليل اتهام دول مجلس التعاون الخليجي ايران بالتدخل في البحرين لنصرة الشيعة فيه على الدولة السنية وقرار دول المجلس بالتدخل العسكري والسيطرة ميدانيا على الارض واعلان حزب الله اللبناني بواسطة قائده حسن نصر الله أنه يتعاطف مع شيعة البحرين ويضع امكانات حزبه بتصرفهم.
وما يجري في الاردن وان بوتيرة أبطأ، ليس بعيدا عن الصراع المخابراتي نفسه، وبغض النظر عمن يكون المنتصر فيه، فالثابت ان المملكة الاردنية ستكون الحلقة الاضعف، ويبدو أن المطلوب ان يكون الاردن جاهزا لقبول قرار ما عندما يحين الوقت لفرض حل ما للقضية الفلسطينية.
والقضية الفلسطينية باتت تطغى بشكل أكبر على مجريات الامور في سوريا ولبنان والاردن، وبرز في الآونة الاخيرة الغزل المستحدث بين حركتي فتح وحماس تحت ضغط جماهير غزة على القيادتين لايجاد مخرج يخرج غزة من عزلتها. غير ان هذا التقارب عكّره في الآونة الاخيرة التفجيرات في القدس المحتلة، بحيث لا يستطيع المرء الاّ ان يتسائل عن سبب حدوث هذه التفجيرات في هذا الوقت بالذات.
الصراع المخابراتي على صفحات الانترنت كان على أشده وسط الاحداث في سوريا. والظاهر ان القيادة السورية استوعبت ذلك، فكانت ردود فعلها متفاوتة بين التعامل الايجابي والسلبي، ولكن لا بدّ انها شعرت للمرة الاولى ان ارضها رطبة وليست صعبة الاختراق، وقد كانت مستشارة الرئيس السوري واضحة بإعلان أن الاصولية السنية وراء الاحداث الجارية في سوريا، وهذا الاعلان بحد ذاته يشير الى أن مد النزاعات الطائفية والعرقية ليس بعيدا عن سوريا ولا هي بمنأى عنه، مما سيحتّم على القيادة السورية أن تعيد حساباتها السياسية الداخلية وفي المنطقة بالمدى المنظور.
وربما هذا ما يفسر الاتصالات الداعمة التي تلقّاها الرئيس الاسد من أمراء الكويت وقطر ومن العاهل السعودي وملك البحرين. ويفسّر أيضا تصريح وزيرة خارجية الولايات المتحدة الايجابي حول سوريا ورئيسها وتأكيدها على عدم تدخّل دولي في سوريا على غرار ما يحصل في ليبيا، معلنة في هذا السياق ان لكل حالة من حالات الانتفاضات العربية خصوصياتها الذاتية.
هل نفكّر برهة بمعنى هذا الكلام؟
وتشير تسريبات عدة من أن الوضع المستجد في سوريا سينعكس ايجابا على الداخل السوري من حيث تلبية مطالب شعبية قديمة جديدة، كما سينعكس على الحالة العامة في الشرق الاوسط وخصوصا على الحالة الحكومية المجمّدة في لبنان، بحيث سيحسم الرئيس المكلّف تركيبة حكومته هذا الاسبوع انسجاما مع التطورات الاخيرة في المنطقة. ويبقى السؤال ما اذا كانت القيادة السورية قد قررت فعلا الموافقة على حكومة وحدة وطنية حقيقية، ولجم اندفاع حزب الله لتأليف حكومة من لون واحد تتعاطف مع استراتيجيته السياسية. الاّ أننا نرى في الوقت ذاته خطفا لسوّاح أوروبيين وتفجيرا لكنيسة مسيحية في لبنان، فهل هي صدفة أن نشهد هكذا حوادث أمنية عشية الاعلان عن تأليف الحكومة العتيدة؟
والصراع المخابراتي على أشده في العراق، ويكاد يكون رئيس الوزراء أول ضحاياه، بعدما برزت في الآونة الاخيرة سلسلة من فضائح سياسية وأمنية ومالية تثبت تورط نوري المالكي فيها، والتي أيقظت الشعب العراقي وحثّته على المطالبة باصلاحات حقيقية في البلاد أقلها تأمين الخدمات البسيطة للشعب من ماء وكهرباء وغذاء وتعليم وأمن.
فهل تغيّر التفاهم الايراني الاميركي الغير معلن بشأن العراق، وعلى ما سيرسي الحال في هذا البلد في المستقبل القريب؟
وتبقى الجزائر والمغرب براكين شعبية نائمة الى أن يحين اوان قيامها. والظاهر أن أوان قيامها مرتبط بالمنحى السياسي الجديد الذي ستتّخذه كل من تونس ومصر خصوصا في أفريقيا الشمالية، ومدى تأثير هذا المنحى السياسي الجديد على مصالح الدول الاخرى بشكل عام وعلى الدول العظمى بشكل خاص.
أما في الخليج العربي، فتبقى الامور موضوعة في اطار الحرب الباردة بين ايران ودول الخليج العربية، ولكن هذه الحرب الباردة تتجاوز تلك الدول لتشمل أيضا الدول العظمى التي تتضارب مصالحها في تلك المنطقة بحيث تبقى دول المنطقة دون استثناء بما فيها ايران، رهينة حالات قلق تتناقص وتتزايد وفق الحالة العامة للصراع، الذي بدأ يركز بشكل خاص على العرقية والمذهبية والطائفية ويشير بقلق متزايد الى فرز ديموغرافي على هذا الاساس.
فقد قيل أن قطر أجهضت منذ شهرين محاولة انقلابية قام به بعض أقارب الامير القطري. ولا يسلم الكويت من صراعات سياسية بين اطراف مذهبية مختلفة، تبدو الى الآن محصورة ضمن القاعة البرلمانية. أما المملكة السعودية، فتعاني من هزّات مختلفة أحيانا من تنظيم القاعدة، وأحيانا من بعض المواطنين الشيعة الذين يحاولون من وقت الى آخر المطالبة بحقوق يعتقدون انهم يستحقوها. وتبقى العلاقة العمانية الامارتية موضوعة على نار فاترة مهددة بأن تستعر في أية لحظة، ولا تسلم ايران من هزات متتابعة في كل اراضيها تخبو وتشتعل من حين لآخر.
فلماذا كل هذه الثورات والانتفاضات اليوم وبتوقيت واحد؟
الاحداث الجارية في الدول العربية وايران وإن بدأت من نبض الشعوب بطريقة انفعالية وغير مدروسة، وولدت من أرحام القهر والظلم والمعاناة، بيد أن نجاحها في تونس ومصر أولا، وعدم مقاومة فعلية من قبل بن علي ومبارك، لم تفتح شهية شعوب أخرى فحسب، بل فتحت في نفس الوقت شهية دول خارجية أطلقت لأجهزتها المخابراتية العنان، في محاولة لتوجيه الشعوب الثائرة وجهات مختلفة، وذلك بطريقة مدروسة جدا وخارقة الذكاء. والمؤسف أن مخابرات دول المنطقة تشارك في هذا المخطط بغباء مطبق، معتقدة أنها توجّه الامور وجهات تريدها أنظمتها، وهي إن كانت تعلم بهكذا مخططات فتلك مصيبة، وإن كانت لا تعلم فالمصيبة أعظم.
والدليل أننا نرى اليوم عاملان أساسيان يحركان الشعوب:
العامل الاول هو النبض الصادق لهذه الشعوب التي تثور شوقا وتوقا الى حرية كاملة وصحيحة. أما العامل الثاني فهو الذي يستغل العامل الاول ويندس بين صفوفه لتنفيذ مخطط مختلف يبدأ بتأجيج النزعات العصبية والطائفية، ربما بغية تحقيق مأرب التغيير الاداري والديموغرافي للمنطقة بأسرها. واذا ما حصل ذلك أصبحت المنطقة بأكملها مفتّتة ومقسّمة أعراقا وطوائف ومذاهب لا يعلم غير الله ما سيكون مدى ضعفها، ومن سيتولى السيطرة عليها وعلى خيراتها ومواردها، وماذا ستكون نتائج هذا المخطط الجهنمي.
فمن هو الطبّاخ الحقيقي لهكذا مخطّط؟ ومن هم الذين يتصارعون على هذه الطبخة؟
وكيف وقعت الانظمة في ايران والبلدان العربية وبسرعة وسط هذه الحلقة؟ ولماذا؟
وعلى ماذا ستستقّر دول المنطقة في المستقبل المنظور؟
وأين اسرائيل من كل هذه الصراعات، وما التأثير الذي سيطالها، وهل سيكون تأثيرا سلبيا أم ايجابيا عليها؟
تبقى هذه الاسئلة دون أجوبة مقنعة، وذلك لسبب بسيط وهو أنه لا يوجد حالة ثابتة الى الآن، فالصراع المخابراتي بين الدول على ما يبدو لم ينته بعد، وهو يتأثر بعوامل وحالات عديدة تتغيّر على مدار الساعة، ولم يظهر الى الآن أية علامات تشير الى اتجاه معين.
فلا بد للشعوب من الحذر، ولا بدّ للحكّام الحاليين واللاحقين من التنبّه قبل أن ينجرفوا ويجرفوا معهم شعوبهم في ظلمات بحور لا يعرف أحد أعماقها.
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق