عندما يمشي حوالي عشرة آلاف شاب وشابة من لبنان في مظاهرة سلمية تجوب شوارع بيروت وتلاقيها مسيرات احتجاجية أخرى في مناطق عدة، تحت شعار اسقاط النظام اللبناني الطائفي، خالية من اية اعلام ورموز حزبية، نستشعر أن رياح التغيير التي تهب على منطقة الشرق الاوسط بدأت تقترب من لبنان.
والاستشعار بهذه الرياح يولّد عند المواطن اللبناني "الصميم" شعورا بفرح هاديء، ويعتريه أمل عارم، كما تبين في وجهه لمحة من قلق على هذه الدعوة الطاهرة وعلى مطلقيها.
عندما ثار الشعب الليبي بوجه معمّر القذافي الذي استملكه واستعبده واستعمره حوالي 42 عاما، ظهر القذّافي ليقول علنا أنّه ليس برئيس أو ملك وإنما هو زعيم الى الابد.
و"الى الابد" هذه، كان يمارسها حسني مبارك وبن علي ويمارسها على صالح وبوتفليقة وغيرهم من رؤساء جمهوريات وملوك على امتداد خريطة الدول العربية.
أما في لبنان فالوضع أخطر بكثير لأن الشعب اللبناني ليس فقط مهمل ومستعبد ومستعمر ومذل، بل أن ساحته ايضا مستباحة، والحواجز الداخلية التي تقيد تحركاته محكمة، والسبيل الوحيد المفتوح أمامه هو الهجرة الى بلاد الله الواسعة.
و"الى الابد" هذه في لبنان لا يمارسها شخص واحد او حزب واحد او حركة واحدة او تنظيم واحد او طائفة واحدة او مذهب واحد، بل يمارسها زعماء هؤلاء كلهم مجتمعين على الشعب اللبناني ويختلفون فقط على كيفية استعباده واذلاله.
كان لبنان على مدى التاريخ محط أطماع ممالك وامبراطوريات مختلفة، ولأن شعبه كان (وما زال) خلّاقا، فقد جهدت تلك الممالك والامبراطوريات على استعباده للافادة من مواهبه وافكاره وقدرته الجبارة على الانتاج.
أما في التاريخ الحديث، كان لبنان موضع تجاذب استعماري تركي اسلامي وفرنسي مسيحي خرج منهما مستقلا من الناحية الاعلامية والنظرية الا انه بقي عمليا تحت رحمة الطائفتين وما يتفرّع عنهما.
ولم يخرج الاستعمار من لبنان الا بعد ان ترك فيه ما يفككه ويوهنه ويجعله دائما يلهث وراء نصيحة الخارج واحيانا كثيرة يطلب الحماية من الخارج.
والذي يفككه ويضعفه هو اختلاف طوائفه ومذاهبه فيما بينها.
والخارج في العصر الحديث هو كل الدول التي رأت في لبنان مصالح حسّاسة لها، فأمعنت في تجنيد من يخدم مصالحها ويقويها، كل دولة وفقا لعقيدتها السياسية.
ولكي يصبح الشأن اللبناني أكثر تعقيدا، انتقلت الحرب الفلسطينية الاسرائيلية لتندلع على أراضيه ومن ثم صارت المواجهات بين اسرائيل والغرب من جهة وايران ودول الممانعة من جهة اخرى تجري على الارض اللبنانية.
وبين هذه وهذه، ضعف لبنان والشعب اللبناني وقويت الاحزاب والتيارات والحركات السياسية اللبنانية التي هي كلها دون استثناء احزابا طائفية أو مذهبية أو عرقية أو تابعة لسياسات دول خارج الحدود اللبنانية من سوريا الى ايران الى السعودية الى اوروبا وصولا الى الولايات المتحدة الاميركية.
ولأن هذه الاحزاب والتيارات والحركات السياسية في لبنان لم تكتف بالتمويل الخارجي لها كي تبقى وتستمر في اضعاف لبنان وشعبه، عمدت الى أقرب السبل للتمويل، فاستولت على خيرات البلاد ومقدّراتها.
والغريب في الامر ان هذه الاحزاب والتيارات والحركات كلها تختلف مع بعضها حتى القتال والموت الا انها دائما تتفق على تقسيم غنائم البلد فيما بينها وان كانت الحصص تختلف وفق التفوق السياسي واحيانا العسكري.
المضحك المبكي انه في كل مرة يحتدم الخلاف بين تلك الاحزاب والتيارات والحركات، تسارع دول الخارج الى تنصيب حكم يجمع الزعماء اللبنانيين (أو بالاحرى المستزعمين) ليحكم بينهم في توزيع الحصص.. وهكذا دواليك.
كان آخر حكم هو حاكم دولة قطر الذي جمع كل الذين استباحوا الشعب اللبناني، فصالحهم مع بعضهم البعض ونسي ان يصالحهم مع الشعب اللبناني نفسه الذي لم يستطع من جراء قهره ان يدخل الى قصر أمير قطر، وزاد قهره بعد اتفاق الجميع عليه في الدوحة.
ومن قبل ذلك كان الحكم هو عاهل المملكة السعودية عندما تم تعديل الدستور اللبناني بموافقة زعماء الحرب في لبنان اضافة الى الدول العربية بما فيهم سوريا، أما ايران فلم تكن شوكتها السياسية في المنطقة قد قويت بسبب حربها مع عراق صدام حسين.
وعندما دخلت سوريا الى لبنان بقصد الفصل بين المتقاتلين وجمع اللبنانيين، فصلت عن قصد او من غير قصد بين اللبنانيين أنفسهم حتى صارت طرفا في الصراع بدل ان تكون راعيا للوفاق.
وبين الطائف والدوحة وما يجري الآن على الشعب اللبناني، نرى دائما بصمات الغرب.
والغرب هذا داهية محنك، يعرف كيف يصادق ويعادي في آن معا، وماهر في التفاوض مع الدول الشقيقة للبنان على لبنان وعلى شعبه، كي يبقى لبنان ضعيفا أمام اسرائيل ومستباحا منها، برغم القول ان لبنان الشعب والجيش والمقاومة يرعب اسرائيل.
ملّ الشعب اللبناني من المعاناة، ولم يعد له قدرة استيعاب المحنات والكوارث، ولم يعد يتحمّل رؤية ابنائه يقتلون في الشوارع لاسباب واهية، وليس بإمكانه الصبر أكثر على حالة "اللا حياة".
والنظام الطائفي ليس هو الوحيد الذي يجب الغائه في لبنان، فقد قلنا سابقا انه لا يجوز ان تختصر الاسماء الاوطان، فلا حسن نصر الله وطن، ولا سعد الحريري وطن، ولا وليد جنبلاط وطن، ولا نبيه بري وطن، ولا ميشال عون وطن، ولا أمين الجميل وطن، ولا عمر كرامي وطن، ولا سليمان فرنجية وطن، ولا سمير جعجع وطن، ولا نجيب ميقاتي وطن، ولا أحد من الزعماء في لبنان بحدّ ذاته وطنا.
وبالطبع ليسوا كلّهم مجتمعين ومتفرّقين يفوقون الوطن بالقيمة والاهمية.
فالوطن فوق هؤلاء جميعهم، وهو الذي ينصرهم جميعا أو يهزمهم جميعا.
وليس الوطن ما يريده الغير أن يكون، فلا سوريا تقرر كيف يكون لبنان ولا ايران ولا السعودية ولا اوروبا ولا الولايات المتحدة الاميركية ولا اية دولة من دول العالم تقرر كيف يجب ان تكون الدولة اللبنانية.
الشعب اللبناني وحده هو من يقرر كيف تكون دولته.
وغير ذلك فلن ينفع لبنان شعبه ولن ينفع اصدقائه ولن ينفع اعدائه.
وسيكون دائما حلقة ضعيفة تضعف معها كل من يتعاطاه.
لذلك يجب ان تكون صرخة الشباب اليوم صرخة مدوية لاسقاط كل "المستزعمين" في لبنان دون استثناء.
يجب أن تكون صرخة ترفع الشعب اللبناني حتى يظهر ماردا على ارضه.
يجب ان تكون صرخة تلغي النظام البالي وكل أعرافه الطائفية المقيتة.
وثورة التغيير يجب ان تغيّر كل شيء وأوّلهم من ظنّوا انهم يستطيعون البقاء بمراكزهم "الى الابد".
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق