بعد اتفاق أوسلو، بدأت الجالية اليهودية في أميركا الشمالية حملات ذاتية بالتقرّب الى العرب المغتربين، وكأن باب فرج قد أتاهم ليلعنوا سياسات سياسييهم الماضية التي تأسست على الحروب والمؤامرات ضد العرب وعلى اغتيالات شخصيات عربية وبالأخص فلسطينية.
غير أن أخطر ما كان في اعترافاتهم في تلك الفترة، أن تربية النشأ اليهودي في اسرائيل كان مبنيا على أساس زرع الحقد والكراهية في نفس الطفل اليهودي ضد العربي والفلسطيني بشكل عام، والفلسطيني الذي لا يزال موجودا داخل اسرائيل بشكل خاص.
وكانت السياسة الاسرائلية العامة تقتضي أيضا ان لا يثق اليهودي الاسرائيلي بأي كائن بشري غير يهودي، ولا يأمن لأي حديث أو أي فعل لا يصدر عن يهودي ابن يهودي، ولهذا السبب هم يريدون اسرائيل ان تكون وطنا قوميا لليهود.
في أحاديث الروايات، أن رجلا ذهب الى منزل يهودي ليطالبه بدين مضى عليه وطر من الزمن واليهودي يتهرّب منه بشتّى الحيل والوسائل. وعندما أحسّ بأن الدائن يقرع بابه، طلب من ابنه أن يفتح الباب ويعلمه أنّه ليس بالمنزل ولن يرجع الا بعد أيام.
ولمّا فتح الولد الباب للرجل، سأله عن سبب إلحاحه لمقابلة والده، فشرح له الأمر. عندها التقط الولد قضيبا من الحديد، وأطلق وعدا للرجل: إعلم أنه اذا رميت قطعة الحديد هذه في الماء وعامت، عندها أعدك بأن والدي سيدفع لك دينه.
فما كان من اليهودي الاّ أن قفز من مخبأه قائلا لإبنه: يا أحمق... كيف تقطع على نفسك مثل هذه الوعد..... وبلكي عامت!!!! وذهب قوله مثلا.
هذه هي سياسة اسرائيل ... عدم اطلاق الوعود وعدم الالتزام بأي التزام، وعدم الثقة بأي شيء وأي كان.
وهنالك فلسفة اسرائيلية أخرى، كشفها احد اليهود الاسرائليين من المهاجرين الى أميركا الشمالية، وهي أن اليهود بشكل عام يعتمدون على البكاء عندما يريدون من العالم أن يلبّي حاجة هم يريدونها، ويظهرون بمظهر المسكين الضعيف الذي لا حول له ولا قوّة، والذي لا يستطيع أن ينال حاجته الاّ اذا ساعده الآخرون على نوالها ولا يحققون أمرا الاّ اذا ساعدهم العالم على تحقيق هذا الامر.
قال ذلك الاسرائيلي، انهم شعب بدأ بالبكاء منذ 2000 عاما، الى أن حقّقوا دولتهم اسرائيل، واستمرّوا بالبكاء حتى صارت اسرائيل من أقوى الدول في الشرق الاوسط وربما العالم، ولم يتوقّفوا ابدا عن البكاء بالرغم من أنّهم استطاعوا توسيع جغرافية اسرائيل بعد ان اغتصبت أجزاء من الاراضي العربية، وأكثروا من البكاء بعد هزيمتهم في 73 حتى عوضّهم العالم الغربي عن هزيمتهم باحلال السلام مع مصر مع السادات ثم بمصرعه بعد ذلك. وانتحبوا لانهم باتوا ضحايا الشعب الفلسطيني ومقاومته، وعندما اجتاحوا الجنوب اللبناني عام 1982، صاروا هم ضحايا الشعب اللبناني ومقاومته وزادوا من بكائهم وعويلهم.
وهم الى الآن يبكون قبل وبعد كل مفاوضات بينهم وبين الفلسطينيين، فيظهرون هم بمظهر الحمل الذي سيذبح، ويلطمون على وجوههم خوفا يريدون من العالم أن يحمي أمنهم واستقرارهم.
يبكون لأنهم يريدون اسرائيل أن تستقدم مزيدا من اليهود "المشرّدين" في العالم اليها، وليس هناك مكانا غير المستوطنات يسكنونهم فيه، ويريد الفلسطيني أن يحرمهم من بناء هذه المستوطنات.
يبكون لأنهم خائفون من حزب الله في لبنان، ويريدون من العالم حمايتهم وينتحبون لأن 15000 جندي أممي في جنوب لبنان هو عدد غير كاف لحماية اسرائيل.
يبكون لأنهم يخشون من ايران على أنفسهم، فهي على قاب قوسين أو أدنى من صناعة القنبلة النووية، ويريدون من العالم أن يحميهم من ايران قبل أن تفنيهم، كما يعد بذلك الرئيس الايراني.
ها هي فلسفة البكاء عند اليهود واسرائيل، والتي أوصلتهم من تقدّم الى تقدّم على مرّ العصور حتى أصبحت اسرائيل دولة قويّة ذاتيا، وقويّة بحماية العالم لها.
وصارت اسرائيل دولة تهدّد الكيان العربي بأجمعه، وتغلغلت وإن بشكل غير مباشر وبشتّى الطرق، داخل الانظمة العربية، فصارت تهيمن على السياسات الداخلية والخارجية لتلك الانظمة، وبرامجمها التربوية والثقافية والبيئية والسياحية.
وعندما نقول هذا الكلام لا نقصد ابدا لا من قريب ولا من بعيد الى أية هيمنة مباشرة، أو الى أي تعامل مباشر أو غير مباشر مع اسرائيل. بل نقصد ان اسرائيل باتت موجودة في تلك السياسات والبرامج بمعنى انه مثلا اذا كان هناك وجود منهج يوضح الوجه العدائي لاسرائيل في البرامج التربوية أو الثقافية المكتوبة والمسموعة والمرئية، فإن اسرائيل تستخدم ذلك كبرهان للعالم انها مستهدفة لتزيد من العطف عليها والضغط لتغيير الوقائع، واغداق المساعدات المادية والعسكرية لتحمي أمنها وحدوده.
وعندما تريد احدى الدول العربية أو ايران مثلا، تقوية ترسانتها العسكرية وشراء أسلحة متطورّه، تسرع اسرائيل بذرف الدموع، لأن هكذا أسلحة من شأنها أن تجعل مواطينيها عرضة دائمة لخطر الموت وأرضها عرضة دائمة للاستباحة. أمّا أسلحتها واستباحتها الاراضي والاجواء اللبنانية مثلا ، فهي وبالدموع أيضا تستطيع أن تقنع العالم انها انما تفعل ذلك من شدّة الخوف وليس لأي سبب آخر.
وعندما تقتل اسرائيل أطفال غزّة وقرية قانا اللبنانية فهي تبكي لأن أطفالها تحت رحمة صواريخ حماس وحزب الله.
هي تبكي والعالم كله يحزن معها و"يطبطب" عليها، ويغمرها بالهدايا!
هذه اسرائيل التي تفعل ما تفعل بتماسك يهودي كلّي في الداخل والخارج.
وإن اختلفوا فهم يختلفون على كيفية تطوير مشاريعهم الانمائية والاستيطانية والعمرانية والعلمية، ولكنهم لا يختلفون أبدا على عدّوهم، ولا في حروبهم ضد أعدائهم.
ونحن العرب وايران ماذا نفعل؟
بنظري المتواضع، عكس كل ما تفعله اسرائيل.
لا أقصد ان نبكي مثل الاسرائيليين، لاننا شعب مجبول بالفخر والاعتزاز والكبرياء.
ولكن نحن ندّعي ونفاخر ونباهي، ونختلف ولا نتّفق.
نختلف مع أنفسنا ومع بعضنا البعض، في السياسات الداخلية والخارجية، في السلم والحرب، في الربح والخسارة.
نختلف حتى اذا اتفقنا، ونختلف اذا قبلنا واذا رفضنا. نختلف تحت الاحتلال ونختلف بعد الاستقلال.
نختلف في السياسة والتجارة والاقتصاد والبناء والعلم والتربية. و نختلف في الرؤيا وفي الاستراتيجية.
نختلف حتى في أدياننا ومذاهبنا.
وفوق الاختلاف نعادي بعضنا البعض ونخوّن بعضنا البعض ونهوّل على بعضنا البعض.
المطلوب في هذه الفترة بالذات أن يتمتع البيت العربي وخاصة فلسطين ولبنان، ومعه ايران وتركيا بوعي فكري كامل ونضوج سياسي متكامل. وبرأينا المتواضع، نعتقد أنه يجب على ايران وتركيا أن تتأثر بذلك الوعي والنضوج وتتعاون لاغناء السياسة الاقليمية وخاصة الاسلامية والعربية وتقوية وتمتين النضوج الفكري وتنسيق استراتيجية سياسية بالتكافل والتضامن، لأن الاستقرار والامن في المنطقة كل لا يتجزأ.
كما يجب ان تتوصل ايران وتركيا والبلدان العربية الى مساحة واسعة، لانضاج المسألة الدينية والمذهبية والعرقية وابعادها عن تجاذبات وتشنّجات وشرذمات لا تصح ان تكون موجودة أصلا فكيف في هذه الفترة بالذات؟
والتأثر بالوعي الفكري والنضوج السياسي ونأي الدين عن السياسة ليس عيبا، وتعبيد الشارع السياسي اذا كان وعرا وركيكا ليس حراما، والابتعاد عن عنتريات الاقوال والنفوذ والوصول الى النفوس ليس ضعفا . والوضع يتطلّب فهما سياسيا واستراتيجيا شاملا وعاما، لا يقتصر على شخص معيّن أو أشخاص معّينين، ويكون بعيدا عن التشنجّات والخطابات الجيّاشة، التي تشحن النفوس وتفرغ العقول.
الفهم السياسي باعتقادنا يجب أن يكون حلقة متكاملة، مرتبطة ارتباطا أساسيا( في هذه المرحلة بالذات) بالحلقة الايرانية والتركية وبالتفاهم الكامل مع العالم الغربي دون الخضوع. ولكي نأمن عدم الخضوع يجب أن تكون الكلمة موحدّة بحيث اذا زار مسؤول غربي أي دولة عربية، فكأنه يزور باقي الدول العربية أو ايران أو تركيا.
فلا حرج إذن ولا إحراج!!!!
ففي العراق مثلا تتسابق الدول الغربية والاقليمية ربما لمصالح خاصة على تجاذب المصالح في هذا البلد لاسباب مختلفة وبالتالي فهي تؤخر عن قصد أو غير قصد نمو ونضوج هذا البلد العريق. أما اسرائيل فهي حتما وعن قصد لا تريد لهذا البلد أن ينهض بقامته التاريخية والحضارية العريقة، وذلك لسبب تاريخي ديني مزمن. وتخشى اسرائيل أن يعيد التاريخ نفسه ويأتي من بلاد الرافدين من يدمّر هيكلها الذي بنته على أنقاض أرض مغتصبة وفوق جثث شعب أرادته أن يدفن هو وتاريخه وحضارته.
أمّا في لبنان، اذا لم يتفق اللبنانيون على العناوين العريضة التي من شأنها أن تحمي لبنان من التشرذم والضياع، فسوف يصعب انقاذ هذا البلد. والوضع يتطلب ثقة متبادلة بين كل اللبنانيين لترتيب البيت من الداخل، لأن هذا البيت لا يمكن أن يقف بوجه الأعاصير الإسرائيلية المتواصلة، الاّ بتدعيمه بسور متين يحميه، كي لا يبقى بيتا من زجاج.
والمقاومة اللبنانية وحزب الله بالاخص اذا اراد ان يكون هذا السور منيعا، فيجب أن يخرج نفسه من مستنقع السياسة، وينأى عن أية تجاذبات داخلية واقليمية ودولية. لان الولوج أكثر في هذا المستنقع يضعف الحجج ويلغي الهدف ويهدي اسرائيل نصرا دون قتال.
المقاومة شيء مقدّس، وبنية نعتز بها لانها استطاعت ان ترعب اسرائيل وتقلق العالم الغربي. لذلك لا يجب اقحامها في دهاليز سياسية قذرة. واذا ارادوا اقحامها أو اضعافها أو الغائها بواسطة محكمة دولية او اي أسلوب آخر، فالدفاع عنها يكون واجب جماعي وليس حصرا على فريق معيّن.
ولكي يصبح هذا الواجب رغبة تلقائية للدفاع عند جميع اللبنانيين، لا بدّ للمقاومة ان تكون على مسافة واحدة من كل اللبنانيين، وليست فريقا سياسيا، مهما كانت الحساسيات كبيرة والتحدّيات عظيمة، فالمصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات.
والمقاومة هي مقاومة بالمقام الاول للدفاع عن الوطن ومصلحة الوطن وشعب الوطن كله دون استثناء. أليس كذلك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق