يبدو ان هذه الجريمة هي عداء وغباء معا، وفي كل الاحوال جريمة كبرى تكملة للجرائم المماثلة في العراق، وهي تثير الاشمئزاز أكثر من حقيقة انها تخلق حالة من الغليان الطائفي لدى الطوائف، والتطرف الديني لدى ضعفاء النفوس.
والتطرف الديني للأسف له شريحة واسعة من الاتباع وذلك لعدة أسباب، أهمها أن الانظمة العربية والاسلامية والمسيحية، ما زالت تعيش في متاهات القرون الماضية وما شاكلها من حروب طائفية ونزاعات مذهبية.
فضلا على أن الانظمة العربية والاسلامية، تمعن في تشجيع التخلف العلمي والفكري، كما تمعن في اغراق شعوبها بالفقر القاهر والفاقة المضنية والتعتير الذي ليس له مثيل حتى فاق كل الاعتبارات.
وتصرفات الشعوب في منطقة الشرق الاوسط هي ردة فعل لفعل حصل، ولا تتعدى كونها "فشّة خلق" او "تنفيس غضب".
ومن غير المعقول ان جريمة بهذه الشناعة والقذارة يمكن ان تكون بتدبير من الداخل، ولا بد أن يكون هذا العمل مرتبطا بسياسة خارجية عامة، لتحريك فتنة طائفية تؤدي في نهاية الامر الى ارباك وخلل سياسي.
والمدبّر لمثل تلك الجرائم، بالطبع عدو.
وهو عدو ليس للبلد الذي تم فيه تنفيذ الجريمة فقط، بل أيضا لشعب هذا البلد بأكمله وبدون تفرقة بين مسلم ومسيحي، لأن المتفجّرة أودت بحياة مسيحيين ومسلمين استشهدوا معا، وكلّهم دون استثناء ليس لهم أي توجه سياسي أو حزبي أو طائفي، بل جلّ أمرهم ان منهم من كان في الكنيسة للصلاة ومنهم من كان مارا بالقرب من الكنيسة قاصدا وجهته التي يقصدها عادة مرورا بالكنيسة.
لذلك فمدبّر هكذا جرائم هو مجرم يمارس اجرامه بكل فظاعة ودنائة.
والمدبّر لمثل تلك الجرائم، بالطبع غبي.
وهو ليس فقط غبيا عاديا، بل غباؤه فاق حدود الغباء، عندما يرى فكره الابله ان هكذا جرائم بإمكانها أن تشكّل حالة عامة من الفتنة الطائفية، ويعتقد بإدراكه البليد أن هذه الحالة يمكن أن تنفجر في الشارع وتتطور لخلق "كانتونات طائفية" كما حصل منذ أمد غير بعيد في لبنان.
فالكانتونات الطائفية في لبنان لم تمنع اللبنانيين من التواصل والتزاوج والترابط وتبادل التجارة عدا عن الصداقة والمشاركة والى ما هنالك من روابط فكرية واجتماعية بعيدة عن الدين والمذهب والسياسة.
واذا كان هناك بعض الاشخاص الذين ينزلون الى الشوارع في حالة غضبية عامة، فهم بالتأكيد مخترقين من طابور خامس يندس بينهم ليؤجج ويصعّد وفي الوقت المناسب يختفي عن الانظار.
مدبّر تلك الجرائم ما زال يعيش في القرون الوسطى، ولا يستطيع ان ينزع صدأ الغباء المتعشش في فكره وقلبه، وتبقى روحه ممسوكة بقبضة شيطانية.
أمّا المنفّذ لهكذا جرائم، فهو ضحية أكثر من كونه مجرما.
هو أولا ضحية الجهل والحرمان والفقر.
وهو أيضا ضحية الظروف السياسية الداخلية والاقليمية والدولية.
وهو لا شك ضحية الازمة الفلسطينة التي لا تريد أن تنتهي وتخلق بدورها ازمات في كل البلدان العربية والاسلامية.
وهذه الازمات بطبيعة الامر نتيجة لعدم تعاون اسرائيلي لحل تلك الازمات، وايجاد معادلة سياسية مناسبة لاقامة دولة فلسطينية بدأ العالم قبل انشائها بالاعتراف بها.
والتعنت الاسرائيلي تغذّية صراعات الاخوة الفلسطينيين فيما بينهم، وصراعات المجتمعات السياسية داخل الدول العربية والاسلامية.
فإذا لم تكن اسرائيل وراء تدبير تلك الجرائم، فهي قطعا المستفيد الاول من حدوثها.
كان الاستعمار الاجنبي بالماضي يقف وراء هكذا جرائم، لأنه يقوّي سلطته في البلاد التي يحتلها، فكلما تفرّق الشعب وتنوّعت انتمائاته ضعف ورضخ وسلّم بالامور.
واسرائيل لا تختلف كثيرا عن الاستعمار الاجنبي الذي بالمناسبة يقف بكل قوّته مع اسرائيل ويساندها ولو كانت على خطأ، باعتراف بريطانيا وفرنسا وأميركا ومعظم الدول الاوروبية.
فإسرائيل هي الاستعمار المتبقي والوحيد الذي يحتل ارضا غير ارضه ويرضخ شعبا بكامله لسلطته وسلطانه,
فإذا كانت جريمة كنيسة الاسكندرية عداء، فالعدو معروف.
واذا كانت غباء، فيمكننا القاء نظرة على التنفيذ السياسي للاستعمار الماضي والحالي لنرى ما مدى الغباء الذي يتخبط به الاستعماران.
ولأنها عداء وغباء، فلا يمكن ان تحقق النتائج المرجو منها، وان حصل بعض الشواذات من هنا وهناك.
فالشعب بغالبيته العظمى، يعرف انه كان ولا يزال ضحية مؤامرات خارجية، تعبث بأوطانه في محاولات مستمرة لهد كل بنيانه.
عداء وغباء، ومؤامرة ساذجة بدأت بعد الحرب العالمية الثانية وما زالت مستمرة لقهر شعوب مناطق الشرق الاوسط والشرق الادنى واوروبا الشرقية وقسم من اوروبا الغربية.
الى الآن لم تحقق هذه المؤامرة النتائج التي يطمح الاستعمار في تحقيقها، لذلك فهي ما زالت مستمرة وبنفس الوتيرة ونفس الوسائل التي استنفذ استعمالها حتى صدأت ولم تعد تعمل بشكل جيد.
عداء وغباء.
كنيسة الاسكندرية تعانق كنائس وجوامع العراق ولبنان وباكستان وافغانستان وايران والسودان وبيوت غزة والضفة الغربية والمخيمات الفلسطينية.
التفجير الاجرامي لكنيسة الاسكندرية يجمع ولا يفرق.
بل على العكس يفضح عداء وغباء المجرم.
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق