طوال الفترة التي كان اللبنانيون ينتظرون ما ستسفر عنه مفاوضات الـ س.س. ومن خلال كل التحليلات والتكهنات السياسية والاعلامية، كان يبرز بين حين وآخر ما مفاده أن السعودية وسوريا يسعيان الى ايجاد حل يرضي الاطراف المتنازعة في لبنان ويحفظ ماء وجه الاكثرية والمعارضة.
وحفظ ماء الوجه هو تعبير تستخدمه ايران الآن قبل بدأ المفاوضات مع الدول الست في تركيا.
وتركيا الآن هي راعية قمة ثلاثية تحتضنها سوريا.
وسوريا هي اللاعب الاكبر الذي يستطيع السيطرة على الامور في لبنان.
ولبنان السياسي الذي يختصر اليوم بعدّة أشخاص ومصالحهم، التي لا يهم إن كانت شخصية أو سياسية أو قومية أو ذات أبعاد دينية أو مذهبية أو عرقية، فهي لا تعبّر عن المصلحة الاساسية للشعب اللبناني الذي يبقي اسيرا وسط تجاذب المصالح.
ومصلحة الشعب اللبناني هو الاستقرار الامني والسياسي والاجتماعي، الذي لم يستطع أي فريق سياسي على الساحة اللبنانية تأمينه على مدى أربعد عقود متتابعة.
وبين كل فترة وأخرى يشاهد هذا الشعب المسكين مسرحية تسوية أو معركة عسكرية أو أزمة سياسية الى ما هنالك من دراما توجع وتبكي القلوب قبل العيون.
والمسرحية المتواصلة اليوم، تعرض منذ اغتيال رئيس الحكومة الاسبق، ملّ منها الشعب، وهو يؤثر عدم مشاهدتها ومتابعتها غير أنها تفرض عليه فرضا.
وخلال عرض هذه المسرحية يطلّ جهابذة السياسة في لبنان، ليناظروا ويتحفوا الشعب "المعتّر" بشتّى أنواع التحليلات التي كلها تقريبا تكون من صنع الخيال، وتؤثّر فقط في تأجيج الاحتقان، وتختصر النتائج، أنك يا شعب يا لبناني ان لم تتبع ما نقول فلن تنعم ابدا لا باستقرار ولا بأمن، وستنهمر عليك الويلات والثبور وعظائم الامور.
عنوان المسرحية الاستقرار الامني في لبنان هو خط أحمر.
غير ان مضمون المسرحية لا يتبع بالضرورة عنوانها.
أما اذا أردنا تحليل بسيط لما يجري الآن على الساحة اللبنانية، يجب سرد ما تقوله السياسية العالمية وليس اللبنانية بخصوص الوضع اللبناني المتأزم:
رأى بعض المحللين الدوليين وبعض قادة دول، أن أي تزعزع للاستقرار الامني في لبنان سيولد حالات مشابهة في عدد من دول العاللم.
وذهب البعض الآخر ليقول ان منطقة الشرق الاوسط برمتّها مقبلة على تغييرات جذرية في ديموغرافيتها وجغرافياتها، وستنشأ دول عرقية ودينية وحتى مذهبية، على غرار الدولة اليهودية.
كل هذا يجوز أن يحصل. لكن الواقع أنه لم يحصل ولن يحصل على الاقل في المستقبل القريب.
لماذا؟
أولا، لأن الدول المعنية بهذا التقسيم لم تجهز بعد لهكذا تغيير.
ثانيا، لأن الازمة الاقتصادية العالمية الحادة لم تنضب مفاعيلها بعد، مما يصعب على الدول الكبرى ادارة هذا التقسيم وبرمجته وتمويله.
ثالثا، لأن الولايات المتحدة الاميركية تريد في هذه الفترة ان تهديء اللعب في الشرق الاوسط لتركّز على اولويات اخرى هي الآن أشد أهمية بالنسبة اليها ولأمنها الوطني، كإتفاقية سالت مع الروس مثلا، وانجاح المفاوضات مع ايران بحيث تطوي هذا الملف الذي بدأ يقلقها، وأية ثغرات أمنية في المنطقة سيقوّي من شوكة ايران ويوسع من نفوذها السياسي.
رابعا، اعلان الولايات المتحدة الاميركية انها لم تعرقل مساعي الـ س.س. وتأكيدها المحافظة على استقرار لبنان ودعم المحكمة الدولية الخاصة.
خامسا، السعي الفرنسي الدؤوب للسيطرة على الوضع وتقريب وجهات النظر بمشاركة سورية.
اذاً، لماذا قامت المعارضة في لبنان بقيادة حزب الله بمسيرة اسقاط حكومة الاكثرية دستوريا، باستقالة جميع وزرائها دفعة واحدة. مع أنّ هذا الامر يؤدي ايضا الى اسقاط اتفاق الدوحة عام 2008 (والذي أثار حفيظة أمير قطر) حيث تعهدت المعارضة انها اذا حصلت على الثلث المعطل فإنها لن تلجأ ابدا الى الاستقالة من حكومة الوحدة الوطنية تحت اية ذريعة.
فهل هذا يعني ان المعارضة لم تحسب هذا الحساب أم انها حسبته جيدا؟
من المعروف ان حزب الله ورغم كل قوته السياسية والعسكرية الا انه لا يستطيع القيام بأية مبادرة سياسية الا بتغطية من حلفاء له في المعارضة وخصوصا الحلفاء المسيحيين وقيادات الطائفة السنية المعارضة.
وحزب الله يعرف جيدا ان لا الحليف المسيحي قادر ان يؤمن الشارع المسيحي ولا الحليف السني قادر على تأمين الشارع السني أو حتى (زاروبا) فيه، ويبقى هو الوحيد المطلوب منه تأمين الشوارع، وتنقلب المعادلة بحيث يكون حزب الله هو الغطاء للحلفاء وليس العكس وهذا بالطبع يزرع خللا مهما في المعادلة السياسية في لبنان.
وبدا من حجم الاحتجاج الدولي والاقليمي على اسقاط حكومة الوحدة الوطنية، حدّة ملفتة للانتباه خصوصا ما صدر عن قطر وتركيا والدول الغربية.
يقال ان سوريا غير راضية عن تحركات المعارضة، وقد لجمتها بالفعل وأصرت على ان يكون التحرك من خلال الاطر الدستورية لا غير. وقد طلبت من وليد جنبلاط لعب دور أساسي في هذا الاطار، والمقايضة مع المعارضة بشأن التصويت لتكليف رئيس الوزراء الجديد، لأن سوريا مصرّة على انجاح مبادرة س.س. لذلك لم يجد وليد جنبلاط حرجا من الاعلان من قناة المنار وعلى جريدة الاخبار التابعتين لحزب الله من اعلان ان الحريري لم يرفض المبادرة السورية السعودية كما تروّج المعارضة، وأن مبادرة الـ س.س. ما زالت قائمة.
كل هذه المستجدّات أدّت الى تأخير خطاب السيد حسن نصر الله لشرح مبررات هذه الخطوة والقاء الضوء على الخطوات اللاحقة.
وعندما أطل الامين العام لحزب الله لشرح مبررات الاستقالة الجماعية التي وصفها بالدستورية، لم يستطع بناء أساس سياسي واضح غير الاعلان عن رفض المحكمة الدولية (التي بظنه انها ستتهم افرادا من حزب الله باغتيال الحريري بهدف سياسي هو القضاء على المقاومة)، وعدم التعاون مع أية حكومة مقبلة لا ترفض المحكمة، وبالتالي رفض ترشيح سعد الحريري بإعادة تكليفه لتشكيل حكومة عتيدة.
مع أن القرار الظني للمحكمة الدولية، الذي يجمع السياسيون على انه سيصدر حتما هذا الاسبوع، قد يكون مفاجأة للجميع وأولّهم حزب الله، بحيث أن الاتّهام قد يكون بعيدا كليا أو جزئيا عن الحزب. فإذا حصل ذلك سيكون البناء السياسي للحزب بحاجة الى تقويم أساسي واعادة نظر رئيسية.
أما رئيس وزراء الحكومة المقالة سعد الحريري، فيبدو انه عاد بنبرة أقوى من نبرته المعتادة، ورأت أوساطه أنه سيعاد تكليفه بأكثرية تفوق الأكثرية السابقة، وهذا يعني ان كتلة رئيس مجلس النواب (أو بعض من نوابها بالحد الادنى) ستشارك في تسميته، وقد ألمح الرئيس نبيه بري الى ذلك حيث قال: ليعلن الحريري موافقته على الـ س.س. وبيشوف عندها من أسمّي، (وهذا يؤكد تطابق المفاهيم بين بري وجنبلاط).
ماذا يعني هذا؟
نعود لبداية هذا المقال وهو حفظ ماء الوجه.
يقال ان سيناريو الحل هو التالي:
تنجح المعارضة في إقالة الحكومة وتثبت بالتالي فعاليتها السياسية بقيادة حزب الله.
يعاد تكليف الرئيس سعد الحريري فيثبت بذلك قوته السياسية.
يكون خطاب القسم الجديد مبنيا على اساس التزام من سعد الحريري رفض اي قرار يتهم حزب الله باغتيال والده من دون قرائن ثبوتية ويعتبره لاغيا، الامر الذي يجعل مصداقية المحكمة الدولية على المحك، مما يضطر الحكومة اللبنانية الجديدة اعادة النظر بتكليفها للمحكمة وبتمويلها.
يلتزم حزب الله باخراج قوته العسكرية من بيروت الكبرى ويساعد الحكومة في نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات.
وبهذا الشكل يكون الاتفاق لبناني لبناني باخراج دولي اقليمي بحيث يحفظ ماء وجه الاكثرية والمعارضة وبشكل خاص الحريري وحزب الله.
نلاحظ أن هذا السيناريو لا يقيم وزنا للشعب اللبناني برمّته، بل يحفظ ماء وجه أشخاص، الذين من غير المستبعد أن يعودوا ويختلفوا عند أول منعطف قادم بدأً بتشكيل الحكومة العتيدة.
الشعب اللبناني ملّ من هذه السناريوهات، ويريد أن يعيش في وطنه بلا خوف أو قلق. ويريد أن يؤمّن قوت أولاده، وتعليمهم، وكسوتهم، وعلاجهم، ودوائهم، ويهيّأهم لتخطيط مستقبلهم دون عراقيل، ويسهّل لهم تأمين وظائفهم دون استنسابية ولا طائفية ولا مذهبية ولا محسوبية.
هذا ما يريده الشعب بمعظم طوائفه وحتى بمعظم انتمائاته السياسية.
فهل يسدل الستار على هذه المسرحية المملة، وينفكّ أسر الشعب؟
لننتظر ونرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق