بين كرّ وفرّ المناكفات والمعارك الدستورية وغير الدستورية في لبنان، يبقى هذا البلد تحت وطأة معاناة حقيقية لاصرار كل الفرقاء على تقديم شخصهم وميولهم ونزعاتهم ومصالحهم السياسية والطائفية فوق أية مصلحة عليا للوطن التي صارت رهينة هذه التجاذبات وأسيرة ما تقضيه قراراتهم.
وبعد أن أضحت المقاومة ضد اسرائيل، مقاومة سياسية أكثر منها مقاومة عسكرية، وحيث ان السياسة في لبنان مستنقع كبير، يغوص فيه الغائصون ويتعرّضون لضغط هائل من وساخة هذا المستنقع، فلا بد أن ينعكس ذلك سلبا على معنى المقاومة ويؤثر على أساس وجودها، لأنها صارت قوة سياسية (عادية كانت أم غير عادية) تتبع قواعد اللعبة السياسية القاتلة في لبنان.
وحيث أن المحكمة الدولية التي أنشأت لكشف ومحاكمة قتلة رفيق الحريري، صارت (شاءت أم أبت) في أساس اللعبة السياسية في لبنان وعليه، فإن قراراتها الظنية وسير محاكمها ستظل عرضة للنقد والجدل السياسي في لبنان وخارجه، والذي لن ينتهي في مدى المستقبل المنظور.
وقد شاء القدر ان يكون لبنان منذ قبل استقلاله وبعد ذلك، محكوما بنظام عائلي قبائلي عشائري طبقي طائفي، يديره حفنة من العائلات السياسية والغنية والطائفية والعشائرية والقبلية.
لذلك فلبنان الوطن يأتي بعد لبنان العائلة ولبنان الطائفة ولبنان العشيرة ولبنان القبيلة.
وان زعيم كل عائلة وطائفة وعشيرة وقبيلة في لبنان هو أهم من الوطن نفسه، ومصالحه في مقدمة كل المصالح الوطنية والشخصية، ولا يتوقف طموحه بأن يكون محبوبا فقط من فئته التي يتوهم انهم كلهم يناصرونه، بل يخيّل له ان كل الشعب اللبناني يناصره ويحبه، الا قلة من الملتزمين مع الخصوم!
ولأن العائلات والطوائف والعشائر والقبائل كثيرة في لبنان، فلا بد من الاصطفاف والاشتباك وشل مقوّمات الوطن، وجلب الدعم لكل فئة من الداخل والخارج القريب والبعيد، فتزيد (الشربوكة)، ويستفحل الخطر، وكثيرا ما تكون النتيجة اشتباكات سياسية وعسكرية داخل المؤسسات وفي الشارع.
أما المؤسسات الرسمية، فهي حكر على عوائل وأقارب المتصارعين، الذين يوقفون صراعاتهم لتقاسم غنائم الدولة، ثم يعودون الى الاشتباكات لكسب مغانم أخرى.
وأما الشارع فقد صار وسيلة ضغط. كل فئة تستخدمه لمصلحتها ضد المصالح الاخرى بما فيها المصلحة الوطنية، ويموج الشارع بأمواج بشرية من هذه الفئة وتلك، ينادي بأسماء الزعماء، فينصر زعماء ويشتم زعماء حتى يختلط الحابل بالنابل، ويستمر الوطن بالانهيار في هاوية لا يبين لها قرار.
أما الشعب الحقيقي فهو الشعب الذي لا ينزل الى الشارع، ويخاف على أمن بيته وأولاده، ويخاطر في سبيل لقمة العيش، ويلعن كل القادة والساسة والمتسيسين.
وأما المقاومة الحقيقية، فهي المقاومة التي لا تغوص في المستنقعات السياسية، وتبقي يدها على الزناد في مواجهة اسرائيل، وتنبذ كل ما يشغلها عن ذلك.
والمقاومة الحقيقية لا يجب ان تهتم بما يقال عنها أو يدّبر لها، بل يجب ان تبقي على الحذر كي لا تقع في المحظور. واذا كان فعلا قرار المحكمة الدولية هو قرار سياسي لاعطاء ذريعة لانهاء المقاومة في لبنان، فهو يكون كغيره من القرارت الدولية التي بقيت حبرا على ورق وزال تأثيرها مع الزمن. ولهذا لا يجب ان تصدر قرارت عن دولة تضعها في مواجهة دول أخرى مما يزيدها ضعفا على ضعف ووهن على وهن.
اسرائيل تعاملت مع هكذا قرارات أممية ودولية، بإنكارها ونكرانها وعدم الاكتراث لها.
صحيح ان العالم يدعم اسرائيل في هذا الشأن ولن يدعم حزب الله .. ولكن الصحيح ايضا أن ليس كل العالم ظل داعما لاسرائيل، وليس كل العالم سيبقى عدوا لحزب الله والمقاومة اللبنانية.
غير أنّ هذا لن يحصل اذا ما بقي حزب الله ومقاومته في نزال سياسي مع العالم، لأن هذا سيضعفه وسيفشله بالنتيجة. والاولى ان يظل محافظا على قوّته، لأنه يشكّل التهديد الحقيقي لاسرائيل ويمنعها من القيام بأي عمل أرعن.
وفي الناحية الاخرى لا يجوز ان تختصر الاسماء الاوطان، فلا حسن نصر الله وطن، ولا سعد الحريري وطن، ولا وليد جنبلاط وطن، ولا نبيه بري وطن، ولا ميشال عون وطن، ولا أمين الجميل وطن، ولا عمر كرامي وطن، ولا سليمان فرنجية وطن، ولا سمير جعجع وطن، ولا أحد من الزعماء في لبنان بحدّ ذاته وطنا.
وبالطبع ليسوا كلّهم مجتمعين ومتفرّقين يفوقون الوطن بالقيمة والاهمية.
فالوطن فوق هؤلاء جميعهم، وهو الذي ينصرهم جميعا أو يهزمهم جميعا.
ومهما تبدّلت أشكال الموالاة والمعارضة، ومهما تشكّلت حكومات مع أو ضد، ومهما جاء من أشخاص مكان أشخاص، فإن الحقيقة تبقى أن لا استقرار في لبنان ما دام الاستقرار مفقود في عقول وقلوب الساسة اللبنانيين، وما دام هؤلاء الساسة تابعون لهذه الجهة الاقليمية والدولية او لتلك.
المصلحة الوطنية في لبنان هي فوق المصالح كلها، وطالما أنها لا تقدّر ولا يعمل بها فلن يكون لبنان قائما، كوطن ودولة مثل كل الاوطان والدول.
والشعب اللبناني هو شعب منكوب، تتوالى المصائب عليه، وصارت جزءا من حياته اليومية حتى انهكته، وأفقدته لذّة الحياة وقيمتها بعد أن أمعن كل من يدّعي حبّه بطعنه واستباحته.
خذلنـي من هم بضعة منــي ومارسوا على مرِّّ السـنين خذلانـي
كل عصبةٍ شدّت على رسنــي امتطتني، وفـق ما يحلو لها ركباني
قولوا لمن فوق طاقتي يحمّلنـي ويحمل إسمي على بيارقه، وعنواني
قولوا لمن يدّعي حبّي ويقهرنـي قتلني حبّكم وانهدّ على ايديكم بنيانـي
كلّما قمتُ من ميتةٍ يبصقُني كفني الى ميتة أقسى. سئم الردى لقيانـي
قولوا لكل من بدوره يحكمنــي لا نفرقّ فيكم ما بين حنش وثعبـان
ما ذنبي وكل من تعاطاني ينكرني أنا دون خلق الله لست في الحسبانِ
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق