تكثر في هذه الفترة الاحاديث والتكهنات حول تقسيم منطقة الشرق الاوسط الى مناطق عرقية ودينية، كما تزداد التحاليل السياسية في وسائل الاعلام المختلفة التي يدور معظمها حول مخططات موضوعة لتفتيت المنطقة واضعافها.
ونرى حديثا ما يجري في السودان حيث اصبحت هذه الدولة دولتين بانفصال الجنوب عنها، وهو منطقة مسيحية بامتياز. ونلمس من افتعال اعمال عدائية ضد اقليات مصر والعراق وتركيا وايران وحتى ما يجري ضمن اقاليم افغانستان وباكستان والهند، ان هناك نوع من التقسيم الديموغرافي جاري العمل به من قبل قوى غربية وبمساعدة أنظمة اقليمية.
وليس سرا ان هناك نارا تحت رماد العلاقات السنية الشيعية، والكردية الايرانية التركية الارمنية السريانية والى ما هنالك من طوائف ومذاهب واعراق تعج بها هذه المنطقة.
فما هو سبب ذلك، ولماذا محاولة اعادة الامور الى الوراء، وما هي الدواعي المستترة وراء مجريات الاحداث التاريخية منذ القدم وحتى يومنا هذا؟
المتعارف عليه بين علماء التاريخ والباحثين فيه، أن معظم الحضارات القديمة انبثقت من منطقة بلاد ما بين النهرين التي تشمل العراق وايران وشمالي تركيا، والبلاد الواقعة حولها امتدادا الى سواحل سوريا ولبنان وفلسطين، وصعودا الى الاردن وشبه الجزيرة العربية.
وقد أطلق الاغريق على هذه المنطقة ما يعرف باصطلاح Mesopotamia أي البلاد ما بين نهري دجلة والفرات.
كما ان هذه المنطقة والبلاد التي فيها شهدت أوائل المجتمعات البشرية التي تطوّرت الى حضارات عريقة بقي منها ما بقي الى زمننا اليوم، واندحر معظمها بعد أن خلّفت ورائها أعراقا منهم من بقي وتأقلم مع الحضارات التي بقيت، ومنهم من هاجر الى مناطق اخرى قريبة او بعيدة.
ومنها ايضا انطلقت الاديان السماوية الرئيسية، التي ساعدت على توسع منطقة ما بين النهرين لتشمل وادي النيل ومصر ووادي الهندوس في الهند والشرق الادنى امتدادا الى النهر الاصفر في وادي الصين.
وتأسست في هذه المنطقة سلالات عريقة تطورت لاحقا لتولّد شعوبا لعبت دورا بارزا في تاريخ الحضارات ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ السومريين والاشوريين والاكاديين والبابليين والحيثيين والفرس. وكانت اللغة السومرية من أقدم اللغات تبعتها اللغة الآكادية ثم الآرامية.
استطاعت شعوب هذه المنطقة من تطوير ادوات ومواد صناعية لتحسين حياتهم الاجتماعية كما انهم استعملوا وسائل نقل للسفر والتبادل التجاري، واخترعوا الادوات المعدنية والزجاجية وادوات صنع الاقمشة وادوات الحياكة، وبنوا السدود لحفظ المياه في الخزّانات وأنشأوا انظمة الري لتحسين الانتاج الزراعي.
استعملوا النحاس والبرونز والذهب لصنع الآتهم العسكرية.
اخترعوا النظام الرقمي وطوّروه لحساب الوقت وجعلوا اليوم 24 ساعة والساعة 60 دقيقة والدقيقية 60 ثانية، وحسبوا السنة 12 شهرا والشهر 30 يوما وأقاموا النظام الدائري على 360 درجة واستخدموه لصنع الخرائط.
قام فيها رسل وانبياء عدة بحسب الكتب المقدّسة، لترشدهم الى الخالق والاله الفعلي للكون، لانهم كانوا يعبدون آلهة عديدة حكوا عنها اساطير مجّدت أعمالها وبطولاتها والتي ما زال بعض أصدائها له وقع قوي حتى يومنا هذا.
في البدايات كانت المنطقة مقسّمة وفق الروايات التاريخية والدينية وفق انتشار ابناء نوح بعد الفيضان، وانشاء كل فريق منهم سلالته الحضارية التي توزعت على مختلف المناطق، ونشأ عنها دولا وحضارات مختلفة، عاشت كلها في حروب مستديمة ظهرت نتائجها في العصور المتقدّمة.
الى ان هيمنت الامبراطورية الاخمينية الفارسية على معظم بلاد المنطقة، حتى غزاها الاسكندر المقدوني وهزم قائدها داريوس الثاني. فبدأ بذلك الاستعمار الغربي او الاجنبي للمنطقة.
ثم تابع الاسكندر تقدّمه ليأخذ سوريا ومعظم بلاد ساحل الشرق واحتل صور بعد حصار طويل ومقاومة عنيفة، ثم توجه الى مصر حيث توالى استسلام البلاد ما عدا غزة التي قاومته مقاومة مستبسلة ولم يستطع دخولها الا بعد حصار طويل ومعارك ضارية.
أطلق على نفسه لقب "المحرر" ونصب نفسه ملكا على الكون كله، وبنى في مصر مدينة الاسكندرية التي سمّاها على اسمه.
وعندما علم ان داريوس الثاني ملك الفرس قد استجمع قواه، توجه الى شمال العراق ليهزمه مرة اخرى بعد معركة ضارية في موقع غواغاميلا، وسقطت بابل على يديه.
فر داريوس الثاني الى مملكة ميديا الفارسية ثم الى بارثيا حيث تبعه الاسكندر واستطاع ان يصل اليه ولكن بعد ان طعنه احد اقربائه طمعا بتنصيب نفسه ملكا.
الا ان الاسكندر استطاع ان يدركه قبل لفظ انفاسه الاخيرة، وادّعى ان داريوس همس في اذنه انه نصّبه خليفة بعده على مملكة فارس الاخمينية، فاعتبر الاسكندر بذلك انه الوريث الشرعي لعرش فارس بعد داريوس.
أعلن الاسكندر الحرب على قاتل داريوس وكان اسمه باسوس، الذي فر الى أفغانستان ثم طاجكستان.
ظهر تغيير مفاجيء بعد ذلك في اطباع الاسكندر وتصرفاته، وبدأ بالتحول تدريجيا من شخص مقدوني ذي تقاليد وعادات غربية، الى شخص آسيوي بطباعه وتصرفاته، وصار يغيّر الكثير من العادات والتقاليد المقدونية الغربية الى عادات وتقاليد لها جذور آسيوية وتزوّج من فتاة فارسية وعيّن من الفرس قادة وحكّاما على البلاد.
ومع الوقت بدأ الفرس والهنود يعتبرونه نبيا جاء لاصلاحهم وليس غازيا، واطلقوا عليه لقب ملك آسيا الا انه فضّل الاستئثار بلقب ملك الملوك.
هذا التحول في شخصه والتطورات في تصرفاته جعلت بعضا من قادته العسكريين يتمردون عليه ويرفضون المشاركة في حملاته العسكرية اللاحقة والتي كان يخطط لها لغزو ما تبقى من بلاد الهند والصين. الى ان توفي في مدينة بابل وفاة ما زالت اسبابها غامضة.
بعد موته حصلت سلسلة من الحروب الاهلية التي مزّقت الامبراطورية الاخمينية، ونتج عنها اقامة عدد من الدول حكمها قادة الاسكندر أنفسهم الذين انحدرت منهم السلالة الارساشيدية، التي انهكتها فيما بعد الحروب مع روما وبدو المناطق، الى ان طغت عليها الدولة الساسانية التي طوت مملكة باثيا تحت لوائها وأنشأت اقليم خوراسان.
وفي القرن السابع بعد ميلاد المسيح، هزم المسلمون بقيادة خالد بن الوليد الامبراطورية الساسانية، وضموا أقاليم وممالك بلاد ما بين النهرين وبلاد الشرق وشبه الجزيرة العربية ليتبعوا الحكم الاسلامي وقسموا المنطقة الى اقليمين: اقليم الموصل واقليم بغداد.
ثم اصبحت بغداد في عهد العباسيين عاصمة الامبراطورية العربية الى ان غزاها هولاكو ملك المغول وامعن بالفتك بأهلها واحرق دار الحكمة وكل مكتباتها العلمية القيمة.
كانت الفتنة بين المسلمين، وحروبهم الضارية فيما بينهم، وتقسيم الخلافة بين الكوفة والشام، من الاسباب الرئيسية التي سهلّت اضعاف الامبراطورية الاسلامية وسهلّت فيما بعد غزو مناطقها من عدّة غزاة ومستعمرين.
ولمّا نشأت الدولة العثمانية وقوت شوكتها السياسية وتعاظمت قوتها العسكرية، اخذت على عاتقها زمام الامور في العراق وخاصة بغداد، فقسّمت المنطقة الى ثلاثة أقاليم: الموصل وبغداد والبصرة التي كانت تضم آنذاك منطقة الكويت.
بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى، كانت الجيوش البريطانية تحتل بلاد ما بين النهرين التي استمدت سلطتها من الانتداب البريطاني للمنطقة، التي عيّنت حاكما هاشميا واحدا على سوريا والعراق ثم فصلت الكويت عن العراق واعتبرتها محمية بريطانية.
شن الرئيس العراقي السابق صدام حسين حربا على الكويت وغزاها تحت عنوان اعادتها الى اقليم البصرة، الامر الذي استنفر له دول الغرب وشنوا حملة عسكرية على العراق لتحرير الكويت.
وتوالت الاحداث بعد ذلك، لتظهر حدّة الخلافات العرقية والطائفية والمذهبية، التي اضحت علّة مستزمنة ومسألة عويصة الحل ابتداء من فلسطين لتشمل كل دول الشرق الاوسط والشرق الادنى تقريبا.
هذه ملخص تمهيدي لتاريخ منطقة مهد الحضارات، للدخول في التقسيم الديموغرافي بعد الفيضان وكيف تتم محاولات اعادة هذا التقسيم للمنطقة، واعادة تأهيلها عرقيا وطائفيا ومذهبيا.
لماذا محاولات التقسيم هذه، وما هي أسبابها وكيف ستكون نتائجها؟
ومن وراء هذه المحاولات؟
هذا ما سنحاول القاء الضوء عليه في الحلقات المقبلة من هذه السلسلة.
www.samicherkaoui.blogspot.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق