عندما تتداخل الامور ببعضها البعض في اية مسألة من المسائل، يصبح الحل صعبا ويتطلب اما تدبيرا جذريا او معالجة استثنائية تكون في كثير من الاحيان بعيدة كل البعد عن المنطق.
والمسألة التي تواجهها منطقة الشرق الاوسط، لا تشذ عن هذه القاعدة,
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبحت هذه المنطقة حقل تجارب، تمارس الدول الغربية وايضا الشرقية عليها وفيها شتى انواع الاختبارات، قياسا لتنوع اطياف شعوبها واديانها ومذاهب أديانها وأعراقها، فضلا عمّا تتمتع به من غنىً في تاريخ حضاراتها وتراثها.
وعندما استطاعت عصبة الامم ان تزرع دولة اسرائيل بين الدول العربية، وتلغي فلسطين، لم تنتبه تلك الامم وعصبتها ان شعب تلك الدولة الصغيرة سيسبب فيما بعد حالات من القلق والهلع والحروب في المنطقة يكون من الصعب لجمها او التعامل معها من دون اجراءات جذرية، بعد فشل المعالجات الاستثنائية الغير منطقية.
عندما أُعلنت دولة اسرائيل عام 1948 كان الاحتلال البريطاني ما زال يسيطر على مصر وفلسطين والاردن سيطرة شاملة. ولمّا نجح جمال عبد الناصر في ثورته عام 1952 واستطاع اجبار بريطانيا العظمى على الجلاء عن مصر، وهزم الغرب واسرائيل بضربة قاضية عند تأميمه قنال السويس عام 1956، عمد الاستعمار الى ممارسة نوع آخر من السياسة الاستعمارية بأن زرع الفساد في معظم اجهزة عبد الناصر الادارية والعسكرية، الى أن استطاعت اسرائيل بسهولة هزم مصر عام 1967 واحتلال اجزاء كبيرة من اراضيها ومعها هضبة الجولان السورية والضفة الغربية في الاردن.
في تلك الاثناء كانت تدور حرب باردة وشرسة بين الولايات المتحدة والدول الغربية من جهة، وبين الاتحاد السوفياتي ومعه دول اوروبا الشرقية التي كان يستعمرها ذلك الاتحاد آنذاك بقيادة روسيا من جهة اخرى.
وقد بلغ ذلك الصراع ذروته عندما استطاع الرئيس المصري انور السادات بمساعدة سوفياتية استرجاع سيناء المحتلة، وكذلك فعلت سوريا واسترجعت جزءا من هضبة الجولان عام 1973 وظلت الضفة الغربية كلها تحت الاحتلال الاسرائيلي، لكنها تكبدت من الجيش الاردني خسائر فادحة اطاحت بحكومات اسرائيلية ممتابعة.
عمدت الولايات المتحدة بعد ذلك الى استمالة الرئيس السادات، فانشق عن التحالف السياسي والعسكري مع الاتحاد السوفياتي وذهب الى القدس لعقد صلح تاريخي مع اسرائيل، سبب شرخا كبيرا في الامة العربية ما زلنا الى الآن نعاني الآمه.
استطاعت الولايات المتحدة ان تستغل فرصة اغتيال السادات ومجيء نائبه حسني مبارك الى الحكم، لتتوسط في تطبيع سلام شامل مع اسرائيل انسحبت اسرائيل بموجبه من باقي الاراضي المصرية التي كانت قد احتلتها عم 1967. غير انها فشلت في استمالة سوريا الى مثل هذا السلام، وبقيت سوريا بقيادة حافظ الاسد محافظة على صداقتها مع الاتحاد السوفياتي..وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية التي استطاعت في تلك الفترة السيطرة على القرار في الدولة اللبنانية بعد نمو قدرتها العسكرية بشكل غير مسبوق على الاراضي اللبنانية.
وبرغم الاختلاف السياسي العنيف آنذاك بين النظاميين البعثيين في سوريا والعراق، الا ان العراق لم يشذ عن قاعدة صداقة الاتحاد السوفياتي وعداء الغرب، ولم يتأخر الرئيس العراقي بتقديم المساعدة العسكرية والدعم الاعلامي لمصر وسوريا والاردن في الحربين مع اسرائيل، وقد شعرت كل من اسرائيل واميركا بتهديد حقيقي لاسرائيل اذا ما تحرك الجيش العراقي وانضم للحرب ضد اسرائيل.
وربما كان ما شعرت به اسرائيل من خطر عراقي، ونمو القدرة العسكرية في ايران تحت حكم الشاه، امران اوحيا لاميركا واوروبا تسهيل ثورة الامام الخميني ومجيئه من منفاه الى ايران لقلب نظام الحكم فيها وطرد الشاه، وتقوية نظام شيعي اسلامي يكون مجابها مباشرة لنظام سني عراقي، ومن ثم انهاك النظامين في حرب مضنية دامت لعدة سنوات، خرج منها النظامين منهكين عسكريا.
بيد ان النظام الاسلامي الشيعي الجديد في ايران اكتسب شعبية متزايدة وعطفا لا مثيل له من قبل الشعب الايراني، الامر الذي جعل ايران تتعافى سريعا من حربها ضد العراق، وتلتفت الى بناء قدراتها العسكرية، وتشديد الحكم الاسلامي في البلاد.
كانت خسائر العراق من جراء حربه مع ايران جمة، وانقطعت عنه الموارد العربية من الدول الخليجية، فظن صدام حسين ان يفرض على العرب دفع الموارد او يأخذها عنوة عندما قرر احتلال الكويت، فكان ذلك الاحتلال غلطة لا تُغتفر دفع ثمنها حياته وقلب النظام البعثي برمته في العراق.
ومع بقاء لبنان تحت السيطرة العسكرية الفلسطينية، وتنامي قدرات منظمة التحرير هناك، قررت اسرائيل اجتياح لبنان ووضع حد لمنظمة التحرير هناك وطردها من لبنان. واستغلت اميركا تلك الفرصة واستطاعت جلب ياسرعرفات لمحادثات سلام مع اسرائيل اسفرت عن انسحاب اسرائيل من قطاع غزة واعطاء الضفة الغربية من نهر الاردن الى السلطة الفلسطينية بقيادة ابو عمار. واستطاع لبنبان ان يشم انفاسه قليلا، بعد انسحاب اسرائيل من لبنان وبقائها في جنوبه، ومجيء رجل السعودية رفيق الحريري ليرأس الحكومة اللبنانية ويشارك سوريا في القرار اللبناني، بعد ان استطاع حافظ الاسد فرض سيطرته على لبنان عسكريا بقرار من الجامعة العربية في محاولة لانهاء الحرب الاهلية في ذلك البلد.
مع سقوط الاتحاد السوفياتي، استطاعت اميركا التحكم اكثر في منطقة الشرق الاوسط، لكنها لم تستطع ان تلجم ايران وسوريا واسرائيل.
تنامت القدرة العسكرية والسياسية لايران، واستطاعة بواسطة تحالف مميز مع سوريا، انشاء حزب الله في لبنان، وتقويته ماديا وعسكريا، وتحويله الى مقاومة شرسة ضد اسرائيل وورقة ضغط كبيرة على دول الغرب، بلغت ذروتها قرار اسرائيل بالانسحاب من الجنوب اللبناني، الامر الذي اطلق العنان لحزب الله ليتحول الى فريق سياسي عسكري لبناني له كلمته المؤثرة في القرار السياسي في لبنان.
غير ان المشهد بدأ يتغير مع تغير الاجواء في المنطقة، وبدء ثورات ما يسمى بالربيع العربي، لخلع انظمة ومجيء انظمة بديلة.
ومع الاطاحة بالانظمة في تونس ومصر وليبيا، ومشارفة كل من النظامين اليمني والسوري على الانتهاء، يدور في الفلك ما يوحي بأن الانظمة البديلة ستكون انظمة اسلامية سنية في مقابل النظام الشيعي المتواجد في ايران والعراق.
كما يدور في نفس الفلك ان هذه الانظمة الاسلامية السنية، ستأتي بالتناغم السياسي مع الولايات المتحدة واوروبا. أولا من اجل اضعاف ايران، وثانيا من اجل ارضاء تركيا الحليفة لتلك الدول وتقويتها في المنطقة برغم ضعف المودة بينها وبين اسرائيل.
يجوز ان النظام في اليمن بحكم المنتهي، لكن النظام في سوريا لم يصل تلك المرحلة بعد. وخيارات حزب البعث الحاكم هناك عديدة ومتنوعة، لكن كلها خطيرة وتؤثر في قلب امور كثير في المنطقة وحتى ايصالها الى نقطة تستعر معها حرب مذهبية شيعية سنية تأكل الاخضر واليابس.
وجنون الحكومة الاسرائيلية الحالية، قد يقودها الى مغامرة عسكرية مع ايران، تلهب منطقة الخليج العربي الايراني برمته، ويجوز ان تمتد الى الهند وباكستان، واشعال حرب شبه عالمية.
ويبدو ان السيناريو المتبع لتجنب هكذا حرب، هو العمل على اسقاط حزب الله في لبنان، وتراجع الدور الايراني هناك، مقابل تثبيت دور ايران في العراق بعد الانسحاب الاميركي في هذا البلد.
ولكي يتم التوازن، تُعطى تركيا دورا مميزا في كل من سوريا ولبنان، ما يعيد ذكرى الدولة العثمانية في الفترة ما بين الحربين الاولى والثانية.
يجوز ان الكلمة الفصل في اشعال الحرب او اخمادها يعود الى اسرائيل ومدى جنونها، بل ومدى الابعاد الحقيقية لاطماعها في المنطقة.
لا شك ان اسرائيل فقدت وتفقد في التحولات التي تجري على الساحة العربية، انظمة خدمتها وحمت امنها بشكل مباشر او غير مباشر على مدى سنوات عديدة، ان بواسطة السلام المباشر معها كما كان حاصلا في مصر وتونس، او بواسطة تفاهمات غير معلنة كما هو حاصل في سوريا، او بواسطة حالة عسكرية (ستاتيكو) كما هو حاصل في لبنان، او بواسطة نظام مجنون يُنهك الدول العربية، كما كان حاصلا في ليبيا...
كل تلك الانظمة حمت امن اسرائيل بشكل او بآخر... واسرائيل لن تقبل ولن يهدأ لها بال حتى تجد من حولها انظمة جديدة تضمن امنها. ولن ترضى بأي حل في المنطقة او أي نظام يستجد في اي بلد عربي، قبل ان تأخذ ضمانات حقيقية من اميركا واوروبا، ومن تركيا ومن ايران نفسها.
اميركا واوروبا تسعيان حثيثا لتصل الى حد اعطاء هكذا ضمانات، من خلال التأثير على الانظمة الجديدة التي ستحكم البلدان العربية.
وتركيا تسعى لتقريب الضمانات، في حال نجحت بتسهيل مجيء انظمة اسلامية سنية تكون شبيهة بالنظام التركي الحاكم حاليا.
وتبقى ايران هي بيضة الميزان.
فهل ستميل ايران الى الاتزان، وتغليب لغة السياسة على الحرب، ام ستسبق اسرائيل في الجنون؟ واشعال المنطقة بأسرها في حرب لا يستطيع احد تقدير كيف يمكن ان تنتهي.
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق