لقد نجحت اسرائيل بتحويل نقطة الارتكاز في الشرق الاوسط
من القضية الفلسطينية والضغط على اسرائيل من اجل ايجاد سلام عادل وشامل في الشرق
الاوسط، الى قضية عرقية طائفية مذهبية بامتياز، صار الضغط فيها يرتكز على الشعوب العربية
الاسلامية في المنطقة، وبدأ الكلام من خلال هذا الضغط يرتكز على تغييرات
ديموغرافية شاملة فيها.
فلم نعد نسمع وسط ما يجري في البلاد العربية من احداث،
عن اي ذكر لحل القضية الفلسطينية وانهاء الاحتلال الاسرائيلي على الاقل للاراضي
العربية ما قبل 1967، ولم تعد على ما يبدو مسألة القدس العربية تشغل بال الحكام في
الدول العربية.
وحتى اذا ما سلّمنا ان هناك من ما يزال يذكر القضية
الفلسطينية وينادي بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي، فإن ذلك لا يتعدّى الكلام السياسي
الذي يأمل المتحدّث به ان ينال دعما لوضعه على الساحة العربية والاسلامية. ويبقى
هذا الكلام ينحصر في اطار الهدف الحقيقي وهو فرض سلطة مذهبية معينة على امتداد
الساحة الشرق اوسطية.
نجحت اسرائيل ومن ورائها من دول الغرب، في تأليب الدول
العربية والاسلامية على بعضها البعض، وتأجيج الصراعات او في اقل تقدير النعرات
العرقية والطائفية والمذهبية بين هذه الدول، والتي سقطت وبشكل مخجل في اتون هذه
اللعبة اللعينة التي قد تؤدي الى خراب شامل للديار، وتُرجع المنطقة الى عصور كان
المحتل الغربي وشريكه اليهودي ينعمان بسلطة التحكم بالعباد وارزاقهم.
مهّدت اسرائيل ودول الغرب لهذه اللعبة، بعد أن وجدت أو
بالاحرى اوجدت الفرصة المناسبة لذلك عند احداث 11 سبتمبر ايلول، فبدأت الولايات
المتحدة الاميركية بغزو ايران ومن بعد احتلالها احتلت العراق.
وهذان البلدان هما المحوران الاساسيان في المنطقة لتحريك
وتأجيج النعرات العرقية المذهبية خصوصا وأن المذهب السني هو السلطة المعتمدة
فيهما. وفي نفس الوقت محاصرة ايران، الدولة الشيعية المتنامية سياسيا واقتصاديا
وعسكريا وحتى نوويا. والتي تعتبرها اسرائيل تهديدا مباشرا لها، وتعتبرها الولايات
المتحدة الفزاعة التي ترهب بها دول الخليج العربي السنية، وتأخذها حجة لابتزاز تلك
الدول لتنفيذ مآربها في المنطقة.
ولبنان، هذا البلد الصغير الذي استطاع رغم صغر مساحته،
وتنوع اطياف شعبه، ان يكون بعد استقلاله من الاستعمار الفرنسي مثالا للتعايش
السلمي، ومثالا للديمقراطية السياسية، ومثالا للفزعة العربية في نصرة القضية
الفلسطينية، ونصرة القضايا العربية التي تنوعت وتشابكت بعد الحرب العالمية
الثانية.
ولا ننسى ان هذا البلد الصغير هو البلد الوحيد الذي ارسل
عام 1948 لواء من جيشه (الذي لم يكن مستعدا بعد لخوض حروب) الى فلسطين للدفاع عن
شعبها، واستطاع ان يسجّل انتصارا مهمّاً اجبر اسرائيل والامم من ورائها الى الدخول
في هدنة عسكرية معه ما تزال مطبّقة (على الورق) الى يومنا هذا، برغم اختراقات
عديدة قامت بها اسرائيل ولاسباب متنوعة، بشنّ حروب شرسة على لبنان واحتلال اجزاءً
من اراضيه وما زالت تحتل الى الآن مساحات منه.
هذا اللبنان، لم يعجب اسرائيل ولا الامم من ورائها،
وقرروا معاقبته. فأرسلوا له النازحين الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم عام 1948،
والذين قبِلَهم لبنان بكل صدر رحب. وناصرهم عندما قرروا انشاء مقاومتهم ضد اسرائيل
وساعدهم وسمح لهم بالتدريب العسكري على اراضيه وحتى شن هجمات مسلحة واطلاق صواريخ
من مواقعهم في لبنان على شمال فلسطين المحتلة.
وقرار لبنان هذا، جعل باقي الدول العربية تطمع بأن تلقي
كل الحمولة عليه، فساهموا بتغذية المقاومة الفلسطينية على اراضيه، حتى كبرت عسكريا
وسياسيا، واكتشفت اسرائيل والامم ورائها في هذا التحول نقطة سلبية للبنان، فأججت
المسيحيين الذين اختاروا مقاومة الوجود العسكري الفلسطيني عسكريا، فبدأت الحرب
الاهلية الطائفية التي تخللها الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 وطرد منظمة التحرير
الفلسطينية من لبنان.
في تلك الفترة كانت ايران تشهد تطور انهاء عهد الشاه
وبدء عهد الجمهورية الايرانية الاسلامية، التي لم تخف طموحاتها بنشر عقيدة ولاية
الفقيه على مجمل اراضي الشرق الاوسط. والتي ما لبثت ان دخلت في حرب مدمرة مع
العراق دامت لعدة سنوات، لم يتم الانتصار لاي دولة عسكرية، ولا الهزيمة ايضا.
لكن النتائج كانت ايجابية لايران بأن باتت دولة قوية،
وسلبية للعراق بأن باتت دولة ضعيفة وعلى خلاف سياسي واستراتيجي مع باقي دول الخليج
العربي. الى ان وقع صدام حسين في الخطأ المميت باقدامه على احتلال الكويت.
استغلت ايران صراعات دول الخليج مع العراق، وبدء حرب
تحرير الكويت، فقامت بدعم المقاومة اللبنانية التي يرأسها نبيه بري رئيس مجلس
النواب اللبناني، وساعدت بتأسيس حزب الله كمقاومة اسلامية عسكرية فاعلة ضد
الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان آنذاك.
بعد ان وقفت الحرب الاهلية شكليا في لبنان، واعلان دستور
الطائف، وبدء مرحلة رفيق الحريري واعمار لبنان واعلن المصالحة بين الطوائف، حصل
حزب الله على تأييد شامل من مختلف التيارات اللبنانية لحركته المقاومة، وزاد هذا
التأييد بعد ان انسحبت اسرائيل من الجنوب اللبنان عام 2000.
الا ان التطورات السياسية والامنية بعد ذلك، زجت حزب
الله في مستنقعات السياسة اللبنانية، وجعلت منه فريقا معاديا لشريحة واسعة من
اللبنانيين، خصوصا بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري
من البلد.
وهنا نجحت اسرائيل ومن ورائها من الامم باضعاف حزب الله
سياسيا في لبنان ولو ان الصورة تقول غير ذلك، بمعنى سيطرته السياسية على الحكومة
اللبنانية الحالية. الا ان الواقع الحقيقي هو كما قال امين عام الحزب، ان الخلافات
داخل الحكومية الحالية تؤكد ان حزب الله لا يسيطر عليها، او بالاحرى لا يستطيع ان
يسيطر عليها.
الا ان حزب الله ازدادت قوته العسكرية اضعافا مضاعفة،
خصوصا بعد حرب تموز عام 2006، وثباته في وجه الهجمة الاسرائيلية. غير ان هذه القوة
العسكرية الهائلة تحوّلت الى سبب اضافي لتأجيج الخلافات مع فئات عديدة من
اللبنانيين، التي اعلنت انها باتت ترى في قوة حزب الله العسكرية، تهديدا لامن
اللبنانيين في الداخل لتميز الحزب بآلته العسكرية وانتمائه السياسي الى ايران
وسوريا، وايضا في ان يكون الحزب سببا في اعتدائات اسرائيلية متكررة على لبنان.
لم ينحصر الخلاف في لبنان بين الاحزاب والتيارات ومن
ضمنهم حزب الله، في السياسة.
بل بدأ يمتد ويتطور الى نعرات طائفية ومذهبية، برغم
الجهود الجبارة التي يبذلها الحزب لمنع اية فتنة طائفية او مذهبية. والسبب بسيط،
وهو ان الحزب نفسه لا يستطيع ان ينأي عنه البعد المذهبي الشيعي خصوصا بعد تأكيد
السيد حسن نصر الله في احدى خطبه انتماء الحزب الى ولاية الفقيه. الامر الذي اوجد
علة في التركيبة المذهبية، وكذلك اوجد سببا لقيام حركات اسلامية سنية، اعلنت رفضها
لعقيدة حزب الله واتهمته بمحاولة فرض هذه العقيدة على لبنان.
وبطبيعة الحال، فإن ايران الداعمة لحزب الله في لبنان،
وجدت ان دول الخليج العربي اظهروا دعمهم للحركات الاسلامية السنية في لبنان، وإن
لم يعلنوا ذلك بشكل رسمي.
ولان الولايات المتحدة الاميركية واوروبا في صراع مع
ايران بخصوص تقدّمها النووي، وتشكيلها خطرا مباشرا على اسرائيل، فقد ارتأت دعم
الحركات الاسلامية في لبنان ولو بخجل. وهذا الخجل هو ما يمنع الانفجار الدموي
الشامل حتى الآن في لبنان.
الشربوكة السياسية الطائفية المذهبية في لبنان تبحث عن
حل.
واللبنانيون وحدهم لا يستطيعون ان يجدوا هذا الحل،
باعتبار ان هذه الشربوكة قد شربكت ايضا الدول الاقليمية. بدليل ما يحصل في سوريا
ومصر والاردن والعراق خصوصا.
وشربكت ايضا الدول الاخرى بدليل ما يحصل من مد وجذر بين
المحور الشرقي المتمثل بالصين وروسيا والمحور الغربي المتمثل باميركا واوروبا.
الى ذلك كله، يبدو ان السياسيين في لبنان (موالاة
ومعارضة) قد تخلوا عن السياسة، وامتهنوا السفافة في الشأن السياسي، وانحدروا الى
درجة من الكراهية لبعضهم البعض، قد يصعب معها اصلاح الامور على المستوى الشخصي في
اقل تقدير.
الشربوكة الحاصلة في لبنان، قد يستطيع اللبنانيون ايجاد
الحل لها، اذا تيقنوا ان ضعفهم هو وراء كل ما يحصل. فالكل في لبنان ضعيف سياسيا
وعسكريا ومدنيا واجتماعيا.
وقوة حزب الله العسكرية في لبنان مهما ازدادت تبقى نقطة ضعف
له في الساحة الداخلية اذا لم تكن هذه القوة محصنة ومدعمة من كل الاطياف في
الداخل.
وتبقى انتمائات الاحزاب اللبنانية للخارج، نقاط ضعفهم
اذا لم يستبدلونها بانتماء حقيقي للبنان قبل كل شيء.
والى ان يتم كل ذلك، تبقى الشربوكة حاصلة، اذا لم
يتداركوها....
وستنمو الى ان ينفجر الوضع برمته، ويتأكد اللبنانيون بعد
فوات الاوان، ان اسرائيل قد نجحت بنأي نفسها عن الصراعات في الشرق الاوسط وحصدت كل
الخير فيه.
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق