18‏/09‏/2011

تركيا وايران والصراع الخفي



وهذا الصراع الخفي يعكس صراعا أقوى بين اعداء الامس في الحربين العالميتين، بيد أن التحالفات اختلطت وتبدّلت، ودخل عليها عوامل جديدة أهمها قيادة الولايات المتحدة لقوى "الحلفاء" الجديدة المتمثلة بأميركا ودول أوروبا الغربية والشرقية وانضمام اليابان ، ومحاولة روسيا تأليف "محورا" فاعلا مع الصين.
وبما أن تركيا استعادت قوتها الاقليمية بعض الشيء، ومالت بسياستها الخارجية الى الغرب طمعا بإدراجها على لائحة الدول الاوروبية، وبما أنها تمثّل كما كانت قبل الحروب العالمية القوة الاسلامية السنية في المنطقة، فقد اعتمدها "الحلفاء" لتكون قاعدتهم الاستراتيجية الاهم في المنطقة.
وبسبب خلافات متواصلة بين دول الخليج العربية، وافتعال ازمات معها كحرب العراق والكويت، وأيضا اهتزاز أمن تلك الدول من قبل منظمة القاعدة، فقد برزت ايران كقوة اقليمية فاعلة في المنطقة، ممثلة القوة الاسلامية الشيعية.
أما القوة الاقليمية الثالثة (وقد تكون الاولى) التي انبعثت بعد الحرب الثانية فهي اسرائيل، التي لا تملّ من ترداد القول انها دولة يهودية، تبني كيانها وسياستها ومجتمعها على هذا الاساس.
وبرغم ان عدد المسيحيين قليل نسبيا، ويشكّلون مع فئات عرقية ومذهبية أخرى أقليات هذه المنطقة، الا ان المسيحيين يمكن اعتبارهم قوة مهمة بسبب قربهم من اوروبا الشرقية واليونان وايطاليا، مما يجعلهم في تواصل متواصل مع الكنيستين الشرقية والغربية والصرح البابوي. عدا عن كونهم محميين من القوى العظمى اميركا واوروبا وروسيا.
ومع احداث سبتمبر واحتلال العراق وافغانستان، والحرب الباردة بين الامم المتحدة وايران، وما يجري الآن في اليمن ومصر وسوريا ولبنان، زادت سخونة المنطقة مما يمكن الاستنتاج انها مقبلة على امر غير عادي خصوصا وان فرزها بهذا الشكل الطائفي يهيئها لاحتمالات تغيير ديموغرافي، على اساس كونتونات دينية أو مذهبية وما يتفرع من هذه الكونتونات من أقاليم تراعاها الدولتان التركية والايرانية، وترضى بها الدولة العبرية.
فإذا امعنا النظر بما يجري الآن على الساحة العربية، نستطيع ملاحظة لاعبين اساسيين ليسا من الدول العربية، بعد أن انكفأت السعودية عن مسرح الاحداث، وظهرت قطر بدور وسيط بين مختلف الافرقاء الاقليميين والدوليين.
انكفاء المملكة العربية السعودية، لا يخطف بريقها ولا يُضعف قوتها ومكانتها، بيد أنه يجوز أنها رضيت بالمحافظة على أمنها ونفطها والتكفل بحماية الدول العربية الاخرى في الخليج. وربما هي اكتفت بذلك بعد أن اكتشفت بُعدها في المسافة عن سوريا ولبنان وفلسطين، وارتأت ان تجيّر دورها الى تركيا باعتبارها دولة اسلامية سنية، وباعها يطول عسكريا دولة اسرائيل، ويؤثر سياسيا على سوريا التي طالما افشلت الخطط السعودية في لبنان.
وتركيا ايضا هي مركز قوة مواجهة لايران، وتتكافأ مها في الموازين العسكري، وتتواجه معها على حدود طويلة.
فلماذا لا تلعب تركيا دور السعودية في شرق البحر الابيض المتوسط؟
واذا صحّ هذا التحليل، فيصح أيضا ان هندسة هذا المخطط هي للأميركي والاوروبي، من خلال مخطط بدأ مع انتهاء الحرب الثانية، ويبدو ان تنفيذ المرحلة الثانية منه قد بدأ الآن.
 
من المعروف ان شعوب المنطقة العربية، لم تتمكن بعد الحرب العالمية الثانية من اختيار قادتها وانظمتها السياسية بطريقة ديمقراطية، اذ انها كلها بلا استثناء كانت ترزح تحت حكم الاستعمار الفرنسي والبريطاني، الامر الذي يبرز معه السؤال، اذا لم تكن الشعوب العربية هي صانعة قاداتها فمن الذين صنعهم؟
بالطبع لم يصنع هؤلاء القادة انفسهم، اذ لا يستطيع أحد أن يصنع نفسه، فالخالق غير المخلوق.
وبالتالي ليسوا هم من أوجدوا أنظمتهم... وإن كانوا قد استولوا عليها وقبعوا فيها وتاهوا في اعماقها، ونسوا انهم في وظيفة رسمية لارباب عمل لا ترحم.
لا شك أن عمر قادة الدول العربية دون استثناء يبدأ من الوقت الذي منح الاستعمار الاجنبي الاستقلال لهذه الدول، وكرّس انظمة في هذه الدول تابعة له! فوُلد النظام ووُلد معه قائده.
بالطبع هناك استثناءات بمعنى أن بعض الانظمة في بعض الدول ولدت متأخرة عن أنظمة في دول أخرى. وأن بعض القادة تثبّتوا متأخرين عن تثبيت قادة آخرين، ولكن بالنتيجة لم ينته عقدين من الزمن بعد الحرب الثانية الا وأن كل القادة الذين مازالوا الى اليوم( وبعضهم رحل كمبارك وبن علي والقذافي)، قد حافظوا على مراكزهم ما يزيد على ثلاثة عقود أو أربعة في حالة القذافي. وكل هؤلاء القادة أتوا بعد حالات ثورية انقلابية (منها مفهوم ومنها غير مفهوم على الاطلاق) أطاحت بأنظمة وأنشأت أنظمة أخرى، وشكّلت هذه الانظمة بشكل أو بآخر درع حماية لدولة اسرائيل الجديدة! والا فكيف نفسر هذا الانسجام بين الدول العربية بالنأي عن محاربة اسرائيل الا في حالة الدفاع، واتخاذها قرار الهدنة معها والالتزام بهذه الهدنة على الرغم من خرق اسرائيل لها بافتعال حروب متواصلة مع مصر والاردن وسوريا وفلسطين ولبنان؟

فكيف حصلت تلك الحالات الانقلابية؟ ولماذا ؟ ومن كان وراء المنقلبين وأنظمتهم الجديدة؟ وكيف وصل القادة الحاليين المخلوعين منهم وما سيحصل للباقين برسم اقدارهم؟

كان الهم الرئيس للاستعمار الاجنبي بعد الحرب الثانية ولا يزال، هو ايجاد وطن لليهود المشتّتين في العالم، والذين كانوا سببا بارزا لقيام الحرب العالمية الثانية. وسيكونون على الارجح سببا في نشوء حرب ثالثة أو على الأقل (خربطة) غير معهودة في خريطة المنطقة سياسيا وجغرافيا وديموغرافيا.
وكانت آثار الحرب الاولى أعمق على الدول التي كانت تحت الحكم العثماني، بعد أن تحقق ما كانت تصبو إليه الدول الأوروبية بتقسيم الغنيمة في تلك البلاد والسيطرة على مقدراتها وثرواتها وخيراتها وشعوبها وحكامها. ولكن الغرب لم ينس كيف تعاملت الدولة التركية الجديدة مع اليهود وكيف تسامحت تركيا في تسهيل هجرة اليهود الى فلسطين وكيف كان لاعتراف تركيا بدولة اسرائيل وتطبيع العلاقة معها.
لذلك فلا مانع ان تكون تركيا اليوم اللاعب الاكبر، تحل محل السعودية التي ليس لها حرية التعبير الفعلي والسياسي الحقيقي مع او ضد اسرائيل. فتركيا لها هذه المساحة الكبيرة في الشد والرخاء مع اسرائيل دون ان تغضب احد من الاطراف بما فيهم اسرائيل نفسها.
تم تقسيم المنطقة التي ظهر فيها اسم الهلال الخصيب، بموجب اتفاقية سايكس بيكو، فحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فأمتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعا بالإتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
ويجوز ان بريطانيا وفرنسا بموافقة اميركا، قد أعطوا هذا الدور الى تركيا، وبقيت السيطرة على العراق مباشرة مع الولايات المتحدة امتدادا الى دول الخليج العربي.
غير ان روسيا ستبقى خارج هذا النظام، ولن تستفيد منه لا سياسيا ولا اقتصاديا.
لذلك فإن روسيا اليوم مع ايران.

كان سقوط الامبراطورة العثمانية، وخلْق ما يسمّى بشرق أوسط جديد، أول وأسرع نتيجة مباشرة في منطقة الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الثانية. بيد أن خلق هذا الشرق الاوسط الجديد سرعان ما خلق صراعات جديدة وكبيرة في المنطقة.
أما النتيجة الثانية التي فاقتها في القوة هي الغاء فلسطين وانشاء اسرائيل.

لذلك تعود فكرة الشرق الاوسط الجديد الى الظهور بقوة على الساحة الشرق اوسطية، ويعود معها خلط الاوراق السياسية، ولاتمام ذلك لا بد من توزيع ادوار جديد للقوى الرئيسية من دون ان تكون قوى استعمارية، وبشكل يسهّل ابقاء المنطقة مفتتة ضعيفة لا تقوى شعوبها على النهوض بها.

هذا الحديث يرجعنا الى عام 1921 عندما عمدت الدول العظمى تنفيذ مقررات مؤتمر القاهرة بقيادة ونستون تشرشل الذي قرر تقسيم الولايات العربية وفصلها عن بعضها بمنحه كل منها الاستقلال عن الاخرى وعن الامبراطورية العثمانية، ومنع توحدها تحت أي ظرف من الظروف. كما تقرر الغاء نظام الخلافة وعدم تطبيقه في أي من الدول العربية الجديد، وعدم اعتماد الشريعة الاسلامية في التشريع ونظام الحكم.
الذي يختلف اليوم هو امكانية اعادة الشريعة الاسلامية الى التشريع ونظام الحكم، ولكن تحت رعاية نظام خلافة جديد متطور تقوده تركيا في محاولة لعلمنة المسلمين السنّة شيئا فشيئا، ونظام خلافة جديد تقليدي تقوده ايران في محاولة لإبقاء التوازن العلماني الديني في المنطقة، الى يوم يظهر فيه نظام جديد ينصهر فيه النظامين التركي والايراني.
كيف نفسّر ان الامام الخميني بدأ ثورته من فرنسا، وبدّل نظام الحكم العلماني في ايران الى حكم اسلامي شيعي، مناهض لاسرائيل واوروبا واميركا الذين حاولوا اضعافه في حرب مع العراق، ثم تقويته في مساعدته بحماية شيعة العراق من صدام حسين، الى درجة تدخل عسكري اميركي أممي وشن هجوما كاملا على العراق بزعم امتلاكه اسلحة دمار شامل؟
عجيب هذا الامر!
وبعد احداث 11 سبتمبر 2001 اصرت الادارة الاميركية على اسقاط صدام ونظامه، وتحركت جيوشها مع الجيوش البريطانية لتحرير العراق من صدام ونظام البعث، واحتلاله لفترة طويلة لم تنته الى اليوم.
سقط العراق وقامت ايران دولة اقليمية متمادية القوة في المنطقة!

وباحتلال العراق اصبحت الدول الغربية وخصوصا اميركا، تسيطر على خط يمتد من العراق يواجه ايران في الخليج الفارسي العربي شمالا، ويمر بدول الخليج العربية المتحالفة اصلا مع الغرب، ليصل الى مصر على البحرين الاحمر والمتوسط، وصولا الى قطاع غزة والضفة الغربية والاردن جنوبا، وطبعا اسرائيل التي نشأ هذا المحور اساسا من أجل أمنها.

الصراع الخفي بين تركيا وايران واضح وجلي على اساس دولة سنية ودولة شيعية، كل دولة تريد مكاسبا على الساحة. واذا سلّمنا ان تركيا تحلم برد اعتبار الدولة العثمانية والسيطرة من جديد على سوريا ولبنان والاردن وفلسطين، فما هو أقصى أحلام ايران؟

ومع الاحلام يظل الصراع بين كواليس السياسة، فهل يظهر الى العلن.

هل ما نشهد اليوم من عداء مطبق من ايران ضد اسرائيل يمثّل الصورة الفعلية في السياسة؟
وماذا يختلف عداء تركيا لاسرائيل اليوم عن عداء ايران لها؟
وماذا يريد الغرب في النتيجة من هذا الصراع، وما هي التغييرات التي يعملون عليها في المنطقة؟
الجواب البديهي هو انهم يريدون تغييرات تحمي في النهاية اسرائيل وتحافظ على امنها ووجودها.

ولكن كيف سيتم ذلك، فسيكون لنا في هذا الشأن محاولة اخرى لوضع بعض الاحتمالات.

سامي الشرقاوي


ليست هناك تعليقات:

قائمة المدونات الإلكترونية

التسميات