ما أن صدر جزء من القرار الظني للمحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الاسبق رفيق الحريري، حتى انبرى متطوّعون كثر ليدلو بدلوهم مع أو ضد القرار، في الصحف وعلى شاشات التلفزة... فاستوجب الرد والرد على الرد وذلك الى ما لا نهاية.
لم يخالف الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ومعه انصاره هذا النظام، كما لم يخالفه رئيس وزراء لبنان السابق سعد الحريري ومعه انصاره. فتنافس الجمعان بتقديم المرافعات ودحض وتأييد الأدّلة، الى درجة بلغت حدّ اصدارهم الحكم النهائي عوضا عن المحكمة.
كل فريق يحاول استمالة جمهور غير جمهوره، والحقيقة ان الجماهير الحقيقية الفعلية قد ملّت سماعهم، كما ملّها الشهداء الذين راحوا ضحية هذا العمل الجبان، وعلى رأسهم الشهيد رفيق الحريري.
والحقيقة ان حزب الله وبغض النظر عن خلفية القرار الظني للمدّعي العام لدى المحكمة الدولية، اذا كان مسيّسا أم بريئا، فإن تعامله مع هذا القرار بهذه السلبية السياسية، قد أبعد هيبة المقاومة عنه، وأنزل نفسه في مستنقع سياسي قذر يعلم الله كيف سيستطيع الخروج منه.
والحقيقة أيضا أن سعد الحريري وبغض النظر عن جرحه الكبير وحزنه العميق وغضبه الشديد لاغتيال والده، ومعه كل الحق في ذلك اولا لأن المغدور الشهيد والده وثانيا لما يمثّله رفيق الحريري للبنان واللبنانيين. بيد أن الامعان في التعاطي السياسي مع هذه القضية الجلل، يكاد يفقدها الجوهر الذي هو جريمة الاغتيال بحد ذاتها.
لا يمكن لأي عاقل ان لا يرى في هذه الجريمة سياسة، فالمغدور رجل سياسة، وخلفية الجريمة خلفية سياسية... الا انها فوق كل هذا تبقى جريمة نكراء وعمل اجرامي مشين وشنيع ويجب تقديم مرتكبيها للمحاكمة.
كما لا يمكن لأي عاقل ان لا يرى ان حزب الله مستهدف سياسيا، فهو ورقة صعبة على الساحة اللبنانية العربية، الا ان تعاطيه السلبي بهذا الشكل مع القرار الظني، يضعف ورقته ويفقده ما تبقى من رصيده السياسي كمقاومة او على الاقل جزء كبير منه.
هذا القرار الظني الصادر عن المدّعي العام لدى المحكمة الدولية، هو قرار ظني، وليس قرار محكمة، ويبقى ضمن هذا الاطار الى ان يأخذ العدل مجراه فتثبت التهمة او تكون التبرئة. وعلى ضوء القرار النهائي للمحكمة وما يستند اليه من قرائن وأدّلة بالتبرئة أو الادانة، سيتعامل الشعب معه فإن كان جائرا احبطه وإن كان عادلا أيّده.
والمتهمون الاربعة ليسوا مناصرين عاديين لحزب الله كما جاء في القرار الظني، بل مقاومون شرفاء كما وصفهم حزب الله وامينه العام السيد حسن نصر الله. الا انهم متّهمون بارتكاب جريمة غير عادية، واذا لم يبادر حزب الله بالتعامل المقنع مع هذا القرار فسيرقى الشك الى اليقين، ليس فقط لدى المحكمة الدولية، بل لدى جمهور عريض على الساحة العربية.
كما وأنه اذا لم يبادر سعد الحريري وفريقه السياسي، الى لجم هذا التوتر السياسي الحاصل، والتعليقات الغير مفيدة والغير مجدية، فيُخشى ان يستغلّ أعداء لبنان والوطن العربي كله، فرصة هذا التوتر وينفدو من خلاله ليغرقونا في ظلمات فوق ما نحن عليه من ظلمات.
لقد جلب لنا العند والمكابرة (كأمّة عربية) ويلات شديدة في العصر الحديث، ونحن نكرّر نفس الاخطاء وكل فريق يتوهّم انه الاقوى مع انه يعلم علم اليقين أن قوّته الحقيقية ليست في تحالفاته السياسية وما يتبعها من قدرات واهية على الارض، بل في وحدته مع غيره من ابناء شعبه.
والجماهير الفعلية هي تلك الجماهير الصامتة، التي لا تنزل الى الشارع للهتاف والتصفيق، بل هي الجماهير البسيطة التي ليس معها ما يقيتها، والجماهير المثقّفة التي لا تستهويها الخطابات المسيّسة، والجماهير العاملة التي ليس لديها ما يسدّ حاجاتها اذا توقّف عملها، والجماهير المؤمنة أن وطنها هو الانتماء الاول لها، وليس لأشخاص ولا لأحزاب.
اتقّوا الله في الناس وفي أنفسكم، وكفاكم نزاعات لا توصل الا الى خسائر متواصلة.
لا تظنّوا ان احدا منكم باستطاعته أن يفوز وينتصر في معركة هي أساسا وجدت لكي يخسر الخاسر فيها والرابح.
أعيدوا لنا هيبة المقاومة وبسمة رفيق الحريري.
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق