طبعا لم يظهر وجه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في القمر....
ولكن في تلك الحقبة أقسم كثير من الناس أنهم شاهدوا وجهه ظاهرا بشكل جلي وواضح في صفحة القمر، ومنهم عدد كبير من أفراد عائلتي، الذين أصرّوا أنّ الخبر ليس خدعة ولا كذبة، وأكّدوا وحلفوا الايمانات، على أنّ القمر في تلك الليلة أبرز وجه الزعيم العربي الذي كانوا يكنّون له محبّة تفوق خيالهم.
خيالهم آنذاك أقنعهم أنّ الله أراد أن يقول للناس أن بطلهم له دلالة الهية خاصة.
على كل حال، وبغضّ النظر عن السياسة التي كان يتّبعها جمال عبد الناصر، ومهما كانت نتائج تلك السياسة، فإن الثابت أن الناس كانوا ينظرون الى هذا الرجل على أنّه الزعيم العربي الذي كان يشعرهم بالقوة والعنفوان، ويعيد اليهم تاريخهم العربي المجيد ويؤكد لهم أنّهم ابناء هذه الأمة الولاّدة التي تنجب الابطال.
جمال عبد الناصر ابن موظف البريد البسيط، واليوزباشي الوطني في الجيش المصري الذي كان يشرف عليه آنذاك الاحتلال البريطاني، استطاع "خربطة" الموازين الدولية، وأوجد فكرة مقاومة الاحتلال الاجنبي بشكل عملاني، وقلب طاولة الامم المتحدة رأسا على عقب، وأنهى الاحتلال البريطاني لمصر بشكل نهائي عندما قام مع جماعة من الظباط الاحرار بثورة 23 يوليو عام 1952.
هذه الثورة وضعت حدّا لحكم التبعية وأرجعت للشعب ما كان يفتقده من حرية وحقوق. رغم أنّ نقاّدها اليوم يرون انّها أرجعت للشعب حقوقا ثم سلبتهم حقوقا أخرى.
ولكن لا يستطيع احد ان ينكر ان هذه الثورة في الوقت الذي قامت به شرحت ليس فقط قلوب المصريين، بل قلوب العرب أجمعين.
ذلك لأن كل البلاد العربية في تلك الحقبة كانت مستعمرة أو شبه مستعمرة أو منحت استقلالا صوريا من استعمار أو احتلال أجنبي.
تلك الحقبة كانت قربية من حقبة الحرب العالمية الثانية، وكانت البلدان العربية ما زالت تعاني من نتائجها وآثارها، وكانت الشعوب تتطلع الى أي خلاص ولو بالحد الادنى، فجاء جمال عبد الناصر ليسمعهم ما يريدون سماعه ويعدهم بتحقيق أحلامهم بالحرية وبالاستقلال الصحيح.
كانت خطابات عبد الناصر، بصوته الهاديء ذي النبرة المميزة تثلج الصدور وتبعث على الامل وتلهب المشاعر العربية حتى بات الناس ينتظرون خطابه بفارغ الصبر، وكانوا عندما يسمعون صوته عبر الاذاعة يتوقفون عن العمل وتفرغ الشوارع من المارة والسيارات ويتسمّر الجميع في كل ارجاء الوطن العربي أمام المذياع ليستمعوا الى ما سوف يقوله الريّس.
ألهبت أغاني الثورة عواطف الناس، وأجّجت مشاعرهم، وصار عبد الناصر ليس في القلوب فقط بل على كل لسان، يرددون: يا جمال يا حبيب الملايين ..... احنا الشعب اخترناك من اجل الشعب.... المارد العربي.... يا حبّنا الكبير... صرخة أطلقها جمال احنا أمّمنا القنال.. وغيرها من الاغنيات التي تردد صداها في كل حي وشارع وبيت في الوطن الكبير.
أمّم عبد الناصر قنال السويس وخاض حربا من أجلها ضد العدوان الثلاثي حتى احرز نصرا رسّخ به حقوق مصر في موارد القنال، بعد أن كان خيرها يذهب لغيرها، فزاد ذلك من حب الشعب وشغفه بالبطل العظيم.
وحتى عندما انهزم عبد الناصر في عدوان 1967 وأعلن أنه يتحمّل مسؤولية الهزيمة بشكل كامل واستقال من كافة مهامه .... أبى الشعب أن يقبل الاستقالة ونزلت الملايين الى الشوارع في كل مدن وقرى الدول العربية من المحيط الى الخليج يرددون بصوت واحد... جمال ... جمال...
تحولت الهزيمة الى نصر... وبقي الريّس في منصبه ... وعمل على استرداد ما أخذ بالقوة بالقوة.. غير انّ المنيّة داهمته وحقّق السادات عام 1973 ما كان قد بدأ هو به.
ومهما يقولون اليوم عن اخطائه وتهوّره ومغامراته المحسوبة والغير محسوبة، الا اّن هذا لا يغيّر شيئا مما يتمتّع به هذا الرجل والى اليوم من منزلة خاصة في قلوب ابناء الشعوب العربية.
لم يستطع أي زعيم عربي جاء بعده (حتى السادات الذي حقّق نصرا مميزا في حرب أكتوبر).. أن يكسب جزءا صغيرا من ذلك الحب الجارف لدى الشعوب لجمال عبد الناصر.
لماذا؟
لسبب بسيط، هو انّ عبد الناصر كان صادقا مع نفسه ومع شعبه، وكان يجاهد بإسم القومية العربية، وبإسم كل فرد من أفراد الشعب المصري والسوري واللبناني والمغربي العربي والخليجي العربي والاردني والفلسطيني بغض النظر عن دينه ومذهبه وانتماءه الحزبي....
فهل نرى اليوم زعيما عربيا له هذه المصداقية؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا محررا من مرجعيته الحزبية أو الدينية أو المذهبية؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا يستطيع ان يعمل من دون ان يحسب ألف حساب أقليمي ودولي؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا يلقي خطبة يستمع اليها كل الشعب العربي دون استثناء؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا يتردد اسمه على ألسنة كل الجماهير العربية دون استثناء؟
هل نرى اليوم زعيما عربيا تخفق له كل القلوب وتبتهج به كل الخوالج وتذرف من أجله كل الدموع؟
هل نرى زعيما عربيا على الاطلاق؟
أستطيع أن أجزم أننا وليومنا هذا لا نرى الا جمال عبد الناصر.
سامي الشرقاوي